روسيا.. لا عزلة سياسية ولا انهيار اقتصادي

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية منتصف أربعينيات القرن الماضي، تحرص القوى العظمى على عدم الدخول في مواجهة مباشرة، خشية الانزلاق إلى حرب ثالثة لا تبقي ولا تذر، إن حصلت، لا سمح الله.

لذلك، يلجأ الغرب بين الحين والآخر إلى سلاح العقوبات ضد هذه الدولة أو تلك، صغيرة كانت أو عظمى، سعياً لتحقيق الهدف ذاته الذي يمكن أن يتحقق بالحرب العسكرية، لكن من دون مخاطرة بالدخول إلى طريق غير معلومة نهايته.

وفي المواجهة الحالية على ساحة أوكرانيا، لجأ الغرب إلى سلاح العقوبات ضد موسكو، منذ سنة 2014، إبان انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، لكن هذه العقوبات زادت أضعافاً ووصلت إلى مستوى غير مسبوق في التاريخ، بعد إطلاق روسيا عمليتها العسكرية الخاصة في فبراير من العام الماضي.

وبالعودة إلى تصريحات الساسة الغربيين وكثير من المحللين ووسائل الإعلام في الغرب، كانت التوقعات بأن تصبح روسيا معزولة دولياً، وأن ينهار اقتصادها سريعاً.

مثلاً، في فبراير 2022، تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، بتحويل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى «منبوذ». قال ذلك وهو يعلن - بالتوازي مع دول حليفة أخرى - عن فرض عقوبات صارمة تستهدف أكبر البنوك الروسية والشركات و«بعض الأثرياء وأصحاب النفوذ في الدولة الروسية».

في ذلك الوقت أيضاً، توقع محللون أن تؤدي العقوبات المفروضة على الشركات المالية العملاقة إلى اضطرابات فورية في الاقتصاد الروسي، وأن تشل قدرة بعض الصناعات الروسية على مواكبة التطورات.

قرار التعبئة

في سبتمبر 2022، ذهب «خبير» إلى حد توقّع دخول الاقتصاد الروسي مرحلة «الاحتضار» بحلول الشتاء بسبب قرار موسكو التعبئة الجزئية لجنود الاحتياط.

ذلك الاقتصادي قال حينها إن «التعبئة» ستكون لها «عواقب كارثية»، بما في ذلك «موت الاقتصاد الروسي وسقوط النظام» في موسكو.

لكن الشتاء وبعده الربيع انقضيا من دون أن يلوح في الأفق شيء من تلك التوقعات، رغم الصعوبات التي طالت مجالات عدة في الاقتصاد الروسي.

وللتدليل أكثر يمكننا العودة تسع سنوات، أي إلى سنة 2014، إبان موجة العقوبات الأولى، حينها قال عنوان عريض لتقرير إعلامي أمريكي «عذراً بوتين.. الاقتصاد الروسي انهار».

وتضمنت تقارير أخرى عبارات من نوع «السقوط الرهيب للروبل أمام الدولار»، وتهاوي بورصة موسكو، وفشل البنك المركزي الروسي في احتواء ذلك التهاوي، وتوقعت دخول اقتصاد روسيا في ركود كبير، معتبرة أن الاقتصاد الروسي «بحاجة لمعجزة لمنع انهياره التام».

صحيح أن الحديث عن تأثير العقوبات سلباً أو إيجاباً، ليس بعيداً عن التعبئة النفسية للحرب ذاتها من هذا الطرف أو ذاك، لكن الأصح أن هذا الموضوع يحتكم للوقائع والأرقام والمسار العام الذي لا أحد يستطيع إخفاء نتائجه، إذ إن كثيراً من الأمور لا تخضع للرغبات والأهواء والأمنيات.

بعد سنة ونصف السنة على الحرب والعقوبات، الواقع يقول إن روسيا ما زالت منخرطة بقوة في السياسة والاقتصاد العالميين، وما نراه لا يمكن أن يشير إلى دولة تعاني من «عزلة». ويكفي توجيه الأنظار إلى منتدى بطرسبرغ الذي اختتمت أعماله هذا الأسبوع بمشاركة 17 ألف شخص يمثلون أكثر من 100 دولة بما فيها دول كبيرة ووازنة، لنرى واقعاً مختلفاً يتشكّل.

وحتى خارج نطاق المنتدى، لا يكاد يمر يوم من دون أن تستضيف موسكو مسؤولاً دولياً أو أكثر من آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. وحتى في أوروبا، يكرر الرئيسان الفرنسي مانويل ماكرون والألماني أولاف شولتز التأكيد أنهما يرغبان في استمرار التواصل مع موسكو، ومع الرئيس فلاديمير بوتين شخصياً.

وبعيداً عن الحسابات والاصطفافات، لقد بات واضحاً أن العالم، بما في ذلك الدول الأوروبية، ليس بحاجة إلى انهيار اقتصاد روسيا، ولا إلى عزلتها، بل لا يحتاج إلى أي صراع يزعزع الحياة الآمنة للشعوب ويضرب أمنها الغذائي ولقمة عيشها.

هذه القناعة بدأت تظهر إرهاصاتها على شكل أصوات، كانت هامسة وباتت عالية، أن لا بديل عن لغة الحوار بديلاً للحروب والتلويح بها وتشكيل الأحلاف وتوسيعها.

 

* كاتب فلسطيني

Email