لأننا تعودنا أن لا تستمر حروبنا أكثر من عدد أصابع اليد وأحياناً اليدين، نستغرب أن تستمر الحرب الأوكرانية كل هذه الأيام التي تجاوزت السنة بثلاثة أشهر، بل إن ثمة من يتوقع استمرارها سنوات.
فحرب 1967 التي تسمى عربياً حرب حزيران أو النكسة، أو إسرائيلياً حرب الأيام الستة، لم تستمر سوى ستة أيام خسرنا فيها سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس! ولسنا في وارد الخوض في أسباب خسارة الحرب التي شاركت فيها دول عربية عدة، فعلياً ورمزياً، لكن ما سر صمود أوكرانيا أمام روسيا التي تعد من الدول العظمى في العالم؟
علينا أن نتذكر أن أوكرانيا التي تخوض الحرب هي أوكرانيا السوفيتية، وما أوكرانيا زيلنسكي إلا امتداد وتحديث لها. فقبل تفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991 كانت أوكرانيا ثاني أقوى جمهورياته الخمس عشرة بعد روسيا.
بعد التفكك بقي على الأراضي الأوكرانية نحو 130 صاروخا باليستياً عابراً للقارات من نوع «يو آر-100 إن»، بستة رؤوس حربية، و46 عابراً للقارات ومن نوع «آر تي-23» مع عشرة رؤوس حربية، إضافة إلى 33 قاذفة ثقيلة، وبالمجموع بقي نحو 1700 رأس حربي على الأراضي الأوكرانية. كانت هذه الأسلحة رسمياً تحت سيطرة رابطة الدول المستقلّة. في عام 1994 وافقت أوكرانيا على تدمير الأسلحة والانضمام إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النوّوية.
لكن ماذا عن الأسلحة غير النووية مثل الطائرات المقاتلة من طراز ميغ وسوخوي والصواريخ متعددة الأنواع والدبابات والمدفعية وأنظمة الدفاع الجوي؟ هذه الأسلحة «السوفيتية» هي العمود الفقري للمقاومة الأوكرانية، حسب «الواشنطن بوست».
كلتاهما روسيا وأوكرانيا، الأعداء حالياً الشقيقان سابقاً، ورثتا تركة الاتحاد السوفيتي الثقيلة. ومدينة باخموت التي صمدت شهوراً أمام الهجمات الروسية تشكل لغزاً من ألغاز صمود أوكرانيا. والاسم الحقيقي للمدينة الصغيرة هو أرتيموفيسك غيّره الأوكران عام 2014 إلى باخموت لطمس هويتها الروسية، وهي المدينة الوحيدة التي أعدها السوفييت لتصمد أمام أي حرب نووية.
تقع تحت المدينة شبكة أنفاق هائلة، تحتوي على مخارج عديدة مفتوحة على بعضها. تلك الأنفاق نتاج الحفر في المناجم التي كان يستخرج منها الفحم الحجري، والملح الصخري، والمرمر، وغيرها التي يعود بعضها إلى القرن الثامن عشر.
الكثير من مباني مدينة باخموت بنيت على مداخل المناجم القديمة التي ترتبط بالأنفاق بشكل مباشر، ويمكن الانتقال عبرها من مكان لآخر عبر عربات قطار وسكك حديدية تستخدم لاستخراج الفحم الحجري والملح الصخري والمرمر.
خلال حقبة الاتحاد السوفيتي، والحرب الباردة مع أمريكا والغرب تم تجهيز بعض تلك الأنفاق بغرف محصنة وأعمدة أسمنتية في المناطق الضعيفة، وبناء مساكن وأندية وشوارع وأسواق وثلاجات تخزين وشبكة اتصالات، لتكون ملاجئ آمنة في حال نشبت حرب نووية.
حلف الناتو منذ العام 2014، بدأ بتجهيز المدينة وأنفاقها وإرسال كميات كبيرة من الأسلحة، واستقدم الكثير من القوات المدربة من الدول الأوروبية ليسكنوا تلك الأنفاق ويحفظوا دروبها، وأعدوا خطة عسكرية محكمة للقتال فيها وهزيمة الجيش الروسي ليفقد الشعب الروسي والعالم الثقة فيهم كلياً، متسائلين، كيف يهزم ثاني أقوى جيش في العالم أمام مدينة صغيرة؟
يرى محللون أن ما يحدث في باخموت «ارتيموفيسك» هو معجزة حقيقية يحققها الجيش الروسي، ويقف الغرب و«الناتو» غير مصدقين أن هناك قوة في العالم تستطيع هزيمة ما أعدوا له هناك، أو أن يتمكن من اقتحام تلك التحصينات المعدة لاحتمال أعتى الضربات النووية، بل لا يوجد في العالم مثل تلك الأنفاق وتجهيزاتها تحت الأرض من مساكن ونواد وشوارع واتصالات وغرف للقيادة والسيطرة وغيرها سوى في العاصمة الروسية موسكو.
إضافة إلى الأسلحة السوفيتية التي زودت بها دول الكتلة الشرقية سابقاً خاصة بولندا وسلوفاكيا مثل دبابات «تي 64» ونظام الدفاع الجوي المضاد للطائرات «إس 300»، فإن تدفق المساعدات والأسلحة الأمريكية والأوروبية على أوكرانيا من جهة وعدم قدرة روسيا على حسم الحرب من جهة أخرى من شأنه أن يطيل أمد هذه الحرب التي تسفك فيها الدماء وتجوع فيها معدات الفقراء في العالم باعتبار أن الطرفين الروسي والأوكراني المزودين الرئيسيين للعالم بالقمح.