النفور والشعور بالمسؤولية

دار حوار بين مؤلف الكتاب الجميل «العرب: وجهة نظر يابانية» (نوبوأكي نوتوهارا) وبين الكاتب المصري الشهير يوسف إدريس. منشأ الحوار كان اهتمام الأديب إدريس بزيارة اليابان مرات عدة، وبحثه المستمر عن سر نهضتها، فكان يسعى دوماً لمعرفة الأسباب العميقة التي «جعلت بلداً صغيراً معزولاً كاليابان يصبح قوة صناعية واقتصادية كبرى».

وبعد الزيارة الثالثة وجه الياباني «نوتوهارا» سؤالاً لإدريس: هل وجدت الإجابة في اليابان؟ فقال إدريس: نعم، عرفت سبب النهضة. فمضى يقول «مرة كنت عائداً إلى الفندق في وسط طوكيو، حوالي منتصف الليل، ورأيت عاملاً يعمل وحيداً. فوقفت أراقبه لم يكن معه أحد. ولم يكن يراقبه أحد، ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو أن العمل ملكه هو نفسه. عندئذٍ عرفت سبب نهوض اليابان وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قسر». وختم كلامه قائلاً «عندما يتصرف شعب بكامله مثل ذلك العامل فإن ذلك الشعب جدير بأن يحقق ما حققتموه في اليابان» على حد تعبيره.

الشعور بالمسؤولية ينبع من ذات الإنسان، ولكنه ينشأ في أحيان كثيرة بعد سنوات من استمرار نهج الانضباط، وسيادة القانون، وإحساس المرء على مدى السنوات أن تقصيره سوف يحاسب عليه، وأن عمله الجيد سيلقى تقديراً ما. مشكلتنا في العالم العربي، أن من يشعرون بالمسؤولية كثر، والمتفانون كذلك، غير أن التحدي الأكبر هو غياب وجود نظام «دائم» أو مستدام أو قابل للقياس في بعض المنظمات. فعندما يستمر النظام، ونجد أنفسنا كأسنان المشط أمام القانون لعقود غير مرتبطة بهمة من هو في رأس السلطة هنا تستقيم الأمور. ويبدأ الجميع بالشعور بالمسؤولية. ويسعى الفرد جاهداً نحو تأدية أعماله على أكمل وجه. لأن النظام سيكشف أو يلفظ المقصر إلى خارج الميدان. تماماً كما يحدث في طابور العرض العسكري، كل ضابط يسير بانضباط ودقة عجيبة فما أن يتوقف أحدهم أو يميل حتى يكشفه النظام، ويراه عامة الجمهور، لا يحتاج الأمر إلى مختصين.

وكذلك الحال عندما تدخل إلى دائرة حكومية، وترى أن الجميع يعمل بجد واجتهاد ويحرص على ألا تسجل بحقه أي شكوى أو تذمر لأن مديرهم أو نظامهم يتابع الأداء بدقة عبر مؤشرات أداة مكتوبة، هنا يكون الجميع مسؤولاً. بل يتنافسون في تسطير أروع أمثلة الإحساس بالمسؤولية. والعكس صحيح فإذا ما تقاعس الجميع، وضربوا بمصالح المراجعين عرض الحائط من تسيب في الحضور، أو تأخير معاملات، أو الانشغال بهواتفهم وإلقاء حمل الإدارة على عاتق شخص متفانٍ هنا سوف يشذ من يشعرون بالمسؤولية في هذه البيئة الطاردة.

والشعور بالمسؤولية قد يكون ذاتياً أو مكتسباً. لكن ما يهمني أنه عبارة عن إدراك ووعي إيجابي يتكون لدى الفرد تجاه واجباته وأفعاله وقراراته. فذلك كله يؤثر على بيئته الصغرى (الأسرة والعمل) وبيئته الكبرى (المجتمع والوطن والأمة). ولذلك نجد أن بوادر الشعور بالمسؤولية تبرز في مدير جديد عندما نجده يدرك تبعات قراراته وتوجيهاته وتعليماته. فيتوخى الحذر في من يستشير ومن يزامل.

ويتسع نطاق المسؤولية إلى آفاق بعيدة، مثل شعور المنظمات الكبرى بدورها الجوهري في تقديم عون مادي للمجتمع عبر أنشطة المجتمع الاجتماعية CSR لدعم الفئات المحتاجة كنوع من رد الجميل للمجتمع.

والشعور بالمسؤولية لا يتناقض مع ارتفاع سقف الحريات. فأن تكون حراً لا يعني ألا تكون مسؤولاً. ولذلك ترفع جمعية الصحافيين الكويتية شعاراً جميلاً منذ نشأتها، يحمل كلمتين: (الحرية – مسؤولية). وكل ما يستحق أن يشار إليه ببنان الإعجاب كان بسبب ثلة من الذين شعروا بوطأة المسؤولية فأدوا أعمالهم على أكمل وجه. هؤلاء من يستحقون الاستقطاب والحوافز وليس حفنة المطبلين والمتقاعسين.