كنا قد كتبنا في هذه المساحة مقالاً حول «الجغرافيا والقوة العسكرية والاقتصاد وثورة الاتصالات»، وتعرضنا خلاله للدور الذي لعبته جغرافيا الدول على أدوارها وعلاقاتها الدولية، خلال قرون طويلة، بما حكم على معظمها بمساحات وأحجام محددة من في هذه الأدوار والعلاقات، ارتبطت طوال هذه القرون بموقعها الجغرافي القريب أو البعيد من بقية العالم، وخصوصاً قلبه في القارة الأوروبية، وحوض البحر المتوسط وما يجاوره من مناطق في حوض البحر الأحمر وغرب آسيا، وتطرقنا أيضا إلى تغيرات مهمة حدثت في هذا القدر الجغرافي للدول، بتطورات جذرية جرت خلال العقود الأخيرة في مجالات القوة العسكرية والاقتصاد وثورات المعلومات المتعاقبة، ما أتاح للعديد منها التغلب على مواقعها الجغرافية البعيدة، اعتماداً على تقدمها في هذه المجالات الثلاثة.

ومع هذا يبقى السؤال النظري والعملي قائماً: هل انتفى دور الجغرافيا نهائياً في تحديد مصير الدول وأدوارها وعلاقاتها الدولية وأصبح محايداً تماماً بالقياس لتقدمها في المجالات الثلاثة المشار إليها؟ والحقيقة أن الإجابة بشكل عام هي لا، حيث لا يزال للموقع الجغرافي دوره المهم والمؤثر ليس فقط في تحديد أدوار وعلاقات الدول الخارجية، بل وأيضاً في المجالات الثلاثة نفسها، التي أثرت على أهمية هذا الموقع.

ففيما يخص القوة العسكرية فلا شك في أن التطور المذهل في الأسلحة الصاروخية بمختلف أنواعها وأمديتها، وكذلك الطائرات الحربية والمسيرة بدون طيار ووسائل الدفاع الجوي بكل أشكالها، قد أضاف لكثير من الدول ذات الموقع الجغرافي البعيد قدرات جديدة، تمكنها من تجاوز بعده، إلا أنه بعيداً عن التطور في مجال الأسلحة الصاروخية، التي باتت قادرة على الوصول لأي منطقة حول العالم، فإن الطائرات الحربية والمسيرة بكل أنواعها ظلت محدودة المدى، ولا تستطيع بسهولة الوصول للمناطق والأهداف البعيدة جغرافياً، وقد تغلبت الدول العظمى عسكرياً في العالم دون غيرها على هذا العيب، عن طريق حاملات الطائرات الضخمة، التي ترتكز في مناطق استراتيجية في عديد من بحار ومحيطات العالم، وقد شمل عيب محدودية المدى نفسه وسائل الدفاع الجوي بمختلف صورها، ولم يبق سوى «حلم حرب الفضاء»، الذي لم يتحقق قط لتجاوزه.

كل هذا فضلاً عن أن القوة العسكرية الفعالة لا يكتمل تأثيرها سوى بالتكامل مع بقية أسلحة الجيوش، وأبرزها المشاة والمدرعات، وهي التي تتطلب لتحركها وقيامها بأدوارها مواقع جغرافية قريبة أو مواتية، ما يظل حافظاً لأهمية الجغرافيا.

وأما بالنسبة للاقتصاد فمن المؤكد أنه لعب دوراً مهماً في تقليل أهمية الموقع الجغرافي، وخصوصاً في القطاعات الخدمية والمالية والنقدية المتصلة بثورات الاتصالات، ومع هذا، فبالنسية للاقتصاد الإنتاجي، أي خلق السلع، فلا تزال الجغرافيا تلعب أدواراً مهمة بشأنه، سواء تعلق الأمر بتوفير مستلزمات إنتاج هذه السلع استيراداً من دول أخرى، أو بتصدير هذه السلع لأسواق دول العالم.

في الحالتين، الاستيراد والتصدير، لا تزال الجغرافيا تلعب دوراً مهماً في تحديد تكلفة الإنتاج وسرعته وبالتالي أسعار مستلزمات الإنتاج والسلع، مما يؤثر في النهاية على قدرات الدولة الاقتصادية الإجمالية.

ويبقى الدور المؤثر للغاية، الذي تلعبه ثورات الاتصالات المتعاقبة في تقليل أهمية الموقع الجغرافي، وتعظيم أدوار وعلاقات الدول العالمية بغض النظر عن مواقعها هذه، وهو ما يظهر بالطبع في مجالات البرمجيات والمنتجات الإلكترونية عموماً، بالإضافة إلى ما سبق ذكره في القطاعات الخدمية والمالية والنقدية المتصلة بهذه الثورات، ومع هذا يظل للجغرافيا أهميتها الفائقة في هذا المجال، حيث ما يربط العالم اليوم عبر شبكة الإنترنت هو أعداد هائلة من كابلات الألياف البصرية، التي تمر تحت البحار والمحيطات، والتي تربط شبكات الاتصالات في كل دولة بغيرها من الدول عبر مختلف مناطق العالم الجغرافية.

وبحسب عديد من الدراسات الموثوقة، فحالياً ما يقارب نسبة 99 % من حركة البيانات الإلكترونية، التي يتم تبادلها عبر العالم، تتم بواسطة هذه الكابلات البحرية، وهنا يبدو تأمين هذه الكابلات للحفاظ على ثورة الاتصالات مرتبطاً بعديد من العوامل، من بينها بالقطع المناطق الجغرافية، التي تمر بها والدول المتاخمة لها، وحالة علاقاتها بالدول الأخرى، وبالنظام العالمي برمته.

الخلاصة البسيطة هي أن تأثير الجغرافيا ومواقع الدول قد ضعف كثيراً في العقود الأخيرة، بفعل عوامل عدة تطرقنا إليها، إلا أن تأثير الجغرافيا، وهذه المواقع يظل قائماً بدرجات مختلفة على هذه العوامل نفسها.

* باحث وكاتب والرئيس الفخري لاتحاد الصحفيين العرب