بعد إطلاق منصة التواصل الاجتماعي الجديدة «ثريدز» قبل أيام قليلة، أضيف لعالم التفاعل الإلكتروني العالمي - وبالطبع العربي – بوابة جديدة واسعة لمزيد من الأواصر وتبادل كل ما هو معلوماتي بين البشر. وبهذه المنصة الجديدة زادت مساحة العالم الافتراضي الذي أضحى يحل تدريجياً، وبسرعات أكبر في حياة الناس، محل العالم الحقيقي، لتتراجع العلاقات الطبيعية المباشرة بينهم لصالح العلاقات الافتراضية الإلكترونية.
ولا شك أن دارسي علوم الاجتماع والعلاقات الإنسانية سوف يواصلون بعد هذه الإضافة، دراساتهم المعمقة لتأثيرات هذا الاتساع في منصات العالم الافتراضي، على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والمجتمعات سواء في الحاضر أو المستقبلين القريب والبعيد. ولا شك أيضاً أن هذه الدراسات ستزداد ثراءً وتنوعاً، بإدخال الجديد في عوالم «الميتا» أو الحياة الافتراضية وما معها ووراءها من تطورات مذهلة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتداخل كل هذا مع منصات وبوابات التواصل الاجتماعي بين البشر في كل مكان.
ولا شك بعد كل هذا أن هذه الدراسات سوف تخلص إلى نتائج وخلاصات وتوقعات غير مسبوقة تتعلق بالعلاقات الإنسانية والاجتماعية سواء بين الأفراد في نفس المجتمعات أو بين المجتمعات بعضها ببعض، وتأثيرات كل هذا على تطور المؤسسات المجتمعية والسياسية المختلفة في هذه المجتمعات، وتطور أو تغير الأدوار التي ظلت تقوم بها لمئات من السنين صياغة وتنظيم علاقات البشر بعضهم ببعض.
ولا يستطيع أحد في الوقت الراهن أن يتوقع على سبيل التحديد الدقيق طبيعة هذه الأدوار والعلاقات وتطورها أو تغيرها لأكثر من المدى المتوسط الذي لا يزيد عن خمس سنوات، ويظل المدى الأبعد من هذا عصياً على التوقع الدقيق المحدد، ويبقى مجالاً لرؤى عامة بعضها قد يراه قطاع من الناس بمثابة «خيال علمي»، بينما يراه قطاع آخر «واقعاً» قادماً بدون أي شك وقد يكون أقل منه دقة وواقعية.
ومع كل هذا، فإن كل تلك الزوايا والتوقعات السابقة لتطور وتغير مستقبل الاجتماع البشري في المديين المتوسط والبعيد، يبدو واضحاً منذ الآن وبحكم مؤشرات عديدة، أنها لن تشمل كل سكان الكرة الأرضية من بشر متنوعي الأعراق ومختلفي الأوضاع الاقتصادية والثقافية والسياسية وغيرها. فحقيقي أن عدد مستخدمي الإنترنت حسب الإحصائيات الأخيرة يقارب 65% من سكان العالم بما يزيد على 5 مليار إنسان، وصحيح أيضاً أن عدد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي يقارب 60% من البشر بما يزيد قليلاً عن 4.5 مليارات إنسان، وصحيح كذلك أن نسبة مستخدمي التليفون المحمول من إجمالي البشر تقترب من 70% منهم، بما يوازي نحو 5.5 مليارات شخص. إلا أن الأوضاع الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية التي يتطلبها قيام التطورات الهائلة في مجالات الاتصال الإلكتروني والحيوات الافتراضية، بما يؤدي لخلخلة وإزاحة البنى الاجتماعية والإنسانية القائمة والعلاقات الموروثة بين البشر والمجتمعات منذ أزمان بعيدة، لا تبدو وفق أوضاع العالم الحالي أنها متوافرة لغالبية شعوبه ودوله ومجتمعاته.
فحقاً بدأ العالم بحسب تعريف منتدى دافوس الدخول إلى ما يسمى «الثورة الصناعية الرابعة»، والتي تتميز باختراق التكنولوجيا فائقة التقدم لعديد من المجالات، بما في ذلك الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وغيرها من مجالات وتطبيقات، إلا أن الغالبية الأكبر من دول العالم ومجتمعاته لا تزال تعيش في عصر الثورتين الصناعيتين الثالثة والثانية، وبعضها يحبو نحوهما ببطء. هذا التفاوت في التقدم وفي امتلاك مقوماته المادية والبشرية والتعليمية والعلمية والتكنولوجية بين المجتمعات والدول، لا يرشح ولا يمكن غالبيتها من الدخول خلال المديين المتوسط وحتى البعيد في هذه الثورة الصناعية الرابعة. وستظل على حافتها البعيدة، ينتفع أهلها ببعض ما يتساقط عليهم ويقدرون على تحمل تكلفته المادية والتكنولوجية، من آثار ومظاهر، دون أن يدخلوا بالفعل إلى جوهرها العميق، بما يغير جذرياً من أبنيتهم وعلاقاتهم الفردية والاجتماعية.
إنه الآن وفي المستقبل عالمان وأكثر، وليس عالم واحد.
* باحث وكاتب والرئيس الفخري لاتحاد الصحافيين العرب