تشريح مخ آينشتاين

حمل وزير العدل وثلة من الأعيان نعش العالم ألبرت آينشتاين إلى مثواه الأخير في مقبرة دير وستمنستر في لندن.

غير أن أحداً منهم لم يكن يعلم ما حدث قبل ذلك، إذ قام توماس هارفي، الاختصاصي في الأمراض المتعلقة بأسباب الوفاة بتشريح جثته.

حيث بدأ في فحص أعضاء آينشتاين، في إجراء روتيني، وسط ترقب مساعده، وعندما انتهى من الفحص جاء إلى الدماغ بمنشار كهربائي لقطع جمجمته واستخراج المخ! ثم خيط فروة الرأس، وقرر الاحتفاظ بمخ آينشتاين أو تحنيطه من دون أخذ الموافقات اللازمة!

ثم أبلغ مساعده أسرة الراحل بما حدث ففزعوا من ذلك النبأ. فاتصل هانز ألبرت آينشتاين بالمستشفى ليشكو ما وقع. غير أن هارفي كان يرى أن ما فعله له قيمة علمية كبيرة في دراسة المخ، فاضطر الابن إلى الموافقة على مضض لجهله بالحقوق القانونية على ما يبدو.

وتم استدعاء هارفي إلى العاصمة واشنطن بعد أن أصبح محاضراً لمن يريدون معرفة خبايا «مخ أشهر عالم في القرن الماضي»!

وعندما وصل إلى وحدة علم الأمراض بالجيش الأمريكي، رفض اطلاعهم على تفاصيل المخ، ثم اضطر لاحقاً إلى التنازل ومنح زملائه في جامعة بنسلفانيا فرصة تقطيع الدماغ إلى شرائح ميكروسكوبية وضعت في وعاءين زجاجيين.

ولم ينشر أي شيء عنها لسنوات طويلة، وبعد محاولات صحفية باءت بالفشل في تعقب هارفي في كل مكان، جاء صحافي يدعى باترنيتي من صحيفة هاربر ليكتب مقالاً ذاع صيته حمل عنوان Driving Mr. Albert.

واتضح أن الطريقة التي حُفِظَ بها مخ آينشتاين جعلت من المستحيل الوصول إلى الحمض النووي الذي يمكن أن يكشف خفايا عديدة.

وفي عام 1998 قرر هارفي منح زميله مخ آينشتاين. ورغم أن المخ قد وزعت شرائح منه على عشرات الأشخاص لاحقاً، إلا أنه لم ينشر عنه سوى ثلاثة أبحاث.

فتوصل البحث الأول إلى أن «القشرة الجدارية، تحتوي على نسبة مرتفعة من الخلايا الدبقية بالمقارنة بالخلايا العصبية.

ويدل ذلك كما يقول القائمون على البحث، على أن الخلايا العصبية قد استنفدت وأصبحت بحاجة لمزيد من الطاقة».

وكانت إحدى مشاكل الدراسة أنها قارنت مخ آينشتاين البالغ من العمر 76 عاماً بأحد عشر مخاً ممن توفوا في سن الرابعة والستين، ولم يكن من بينها عباقرة يمكن مقارنته بهم.

والتحدي الجوهري الآخر كان عدم إمكانية معرفة أي صفات فيزيائية يمكن أن تقف خلف تمتع آينشتاين بمستوى مرتفع من الذكاء.

البحث الثاني، المنشور في عام 1996، كشف النقاب عن أن القشرة الخارجية لمخ آينشتاين، أقل سماكة من خمسة أمخاخ تمت مقارنته بها.

ولوحظ أن خلاياه العصبية كانت أكثر كثافة. وربما لأن العينة صغيرة، فلم يتمكن العلماء من ملاحظة أي «نمط» سائد في دماغ العالم الكبير.

وفي عام 1999، حدث تغير كبير في بحث قامت به ساندرا وايتلسون مع فريق من جامعة ماكماستر في أنتاريو بكندا.

وكانت قد حصلت على قطعة كبيرة من دماغ آينشتاين بما فيها الفص الجداري حملها إليها هارفي (البالغ من العمر ثمانين عاماً آنذاك) بسيارته إلى كندا!

وبعد مقارنة مخ آينشتاين بأمخاخ خمسة وثلاثين رجلاً، تبين أن مخه «يحتوي على تجويف صغير في إحدى مناطق فصه الجداري السفلي يعتقد أنه المسؤول عن التفكير الرياضي والفراغي.

وكان مخه أيضاً أوسع في هذه المنطقة بنسبة 15 في المائة». وألمحت الدراسة إلى أن هذه الصفات قد تكون ناتجة عن «دوائر مخية أكثر تكاملاً وثراءً في هذه المنطقة» حسبما ذكر في كتاب «آينشتاين.. حياته وعالمه» لمؤلفه والتر إيزاكسون، ترجمة هاشم أحمد.

وما يستحق التأمل هو أن عبقرية هذا العالم، وأسلوبه في التفكير، والأهم إنجازاته الخالدة، هي ما ضاعفت فضول هارفي وغيره لمعرفة كيف يعمل مخه.

ربما يكون هذا الرجل موهوباً فطرياً، إلا أنه قال كلمة خالدة قبيل رحيله لا نعلم ما إذا قيلت على سبيل التواضع حينما قال: «لست موهوباً إنما أنا فضولي متحمس».

وكم من آينشتاين عربي يعيش بيننا، إلا أنه لم يجد أذناً صاغية، فصار عرضة للتندر، والتنمر، والإقصاء. عندما يُحارب الموهوب في بلدك تذكر أن خللاً جسيماً يحول دون تقدمه.

* كاتب كويتي متخصص في الإدارة

الأكثر مشاركة