فرنسا والمجتمعات متعددة الأعراق

ما جرى في فرنسا يستحق فتح باب السؤال والبحث حول المجتمعات متعددة الأعراق والإثنيات والثقافات.

وذلك دون مواربة أو حساسية مفرطة أو «حياء» بحثي، إذ لا حياء في البحث والمعرفة.

الجميع يعرف تفاصيل ما جرى من الناحية الخبرية. الطفل نائل (17 عاماً) فرنسي من أصول جزائرية. رغم عمره الصغير.

إلا أن عدد المرات التي «قاوم توقيف الشرطة فيها» حتى عام 2021 فقط بلغ خمساً. لم يُدن أبداً «بشكل قاطع»، لكنه كان «معانداً» للشرطة!

مثل هذه الحوادث المؤسفة تكون مثاراً للقيل والقال، وتبادل الاتهامات بين جاليات أو أقليات من السكان تعاني حرماناً أو إهمالاً أو إبعاداً في المجتمع من جهة، وبين مؤسسات الدولة ومعها البعض من مناهضي أو كارهي أو معارضي فكرة المجتمع متعدد الأعراق.

الشرطة «الغربية» تلجأ إلى القوة المفرطة في التعامل مع شخص يبدو من ملامحه أنه عربي أو أسود، تتفجر ينابيع الغضب لأن الشرطة «الغربية» تضطهد غير البيض.

ويشار إلى أن الشرطة «الغربية» إن استخدمت القوة المفرطة في التعامل مع شخص أبيض مشتبه فيه، فإن الأمر عادة لا يلقى اهتمام الإعلام التقليدي أو الـ«سوشيال ميديا» بالقدر الكافي.

ويشار أيضاً إلى أن بعض أجهزة الشرطة «الغربية» تحوي أفراداً من أصول مختلفة سواء عربية أو غير عربية.

المواطنون الغربيون، لا سيما الفرنسيين، من أصول عربية في دائرة الضوء دائماً. الصورة النمطية تدور في فلك واحد لا ثاني له:

العرب مثيرون للمشاكل، لا يريدون الاندماج في المجتمع، يضربون عرض الحائط بقوانين الدولة وقواعدها، معدلات التعليم الجيد بينهم متدنية، الكثيرون منهم ينخرطون في مجالات وأنشطة غير قانونية أو يميلون إلى التطرف والتشدد الديني وينتهزون الفرصة السانحة لترجمة هذا التطرف إلى أفعال والقائمة طويلة.

وتفرض هذه الصورة النمطية الظالمة محدودة الرؤية أحادية الجانب المتغاضية والمتجاهلة للصورة الكاملة نفسها هذه الأيام بين قطاع ممن يعلقون على حادث نائل وما نجم عنه من أيام تظاهرات وعنف وغضب.

والحقيقة أن استمرار وجود هذه الصورة النمطية والإبقاء عليها وعدم بذل الجهد الكافي لتغييرها عبر الإصلاح والتحسين من جهة، والتوضيح والشرح من جهة أخرى يساهم في تفتيت المجتمعات متعددة الأعراق والأصول.

الأنظمة السياسية في هذه المجتمعات التي «تحظى» بالتعددية العرقية والتي تحتضن مواطنين من أصول مختلفة تعي كذلك أن فئات بعينها تحتاج قدراً أوفر من الرعاية والاهتمام، وأن عدم توفير ذلك لن يدخل هذه الفئات وحدها في دوامات الفقر والعنف والتطرف والخروج على القانون، بل دخولها يعني تأثر المجتمع كله بما فيه الفئات الأفضل حالاً والأوفر حظاً.

بمعنى آخر، الاهتمام بالفئات الأولى بالرعاية يحقق معادلة الربح للجميع

Win win situation وبديلها سيكون الخسارة للجميع.

الخسارة للجميع تبدو واضحة فيما نقلته «فرانس 24» من ترجمة فعلية عبر السطور التالية: «من الرئيس جورج بومبيدو في مطلع سبعينيات القرن الماضي إلى إيمانويل ماكرون، 40 عاماً من المخططات والاستراتيجيات تم تنفيذها في فرنسا بهدف تحسين وضع الضواحي والأحياء الشعبية.

لكن رغم المشاريع التنموية وما كلفته من أموال طائلة، إلا أن سكان الضواحي وغالبيتهم من المهاجرين وأولادهم ما زالوا يعانون التهميش اقتصادياً واجتماعياً».

اقتصادياً واجتماعياً، وأزيد عليهما ثقافياً، يعاني الكثير من المهاجرين والأجيال الثانية والثالثة وربما حتى الرابعة، في العديد من دول المهجر من عدم القدرة أو عدم الرغبة على الاندماج في المجتمع الذي يصبح «الوطن» الجديد.

فرق كبير بين الحفاظ على العادات والتقاليد والمعتقد والهوية، وبين اختيار العزلة أسلوب حياة والانفصال طريقة تفكير، واستنساخ وصورة طبق الأصل من الوطن الأم في شارع أو حي وتحويله إلى دولة في داخل الدولة. ويظهر هذا واضحاً في العديد من الأحياء في مدن أوروبية كثيرة حيث يشعر الزائر بأنها إما منفصلة عن المدينة الأصلية أو مهندسة جينياً.

«فشل المدن» عبارة عميقة المغزى. تشير دراسة عنوانها «إشكالية فرنسا العربية» للباحث الفرنسي باسكال بلونشار (2016) إلى أن مشاريع الإسكان العام التي أقيمت في ضواحي المدن الفرنسية الرئيسية أدت إلى تركيز الهواجس الجديدة المتمثلة في انعدام الأمن وانتشار العنف والإجرام والبطالة بين سكانها، وأغلبهم من المهاجرين، ونسبة معتبرة من المنتمين لأصول عربية وأفريقية.

الأجيال الجديدة من أبناء وأحفاد المهاجرين في حيرة من أمرها. فهي لا تشعر بأنها جزء من «الوطن» حيث تعيش، ولا هي جزء من «الوطن» الأم.

هؤلاء يتقاذفهم التاريخ والرغبة في الانتماء، والبحث عن هوية بدل الملتبسة السائدة، فضلاً عن وقوعهم تحت طائلة ضغوط دينية من جهة، وما يبدو لهم ولذويهم أنه «انحراف حضاري غربي» من جهة أخرى».

الكثير من المجتمعات ذات التعددية العرقية على صفيح ساخن، والأمر يحتاج بذل الجهد للفهم والعمل وكذلك الاندماج.

 

*كاتبة صحافية مصرية

الأكثر مشاركة