حتى قبل خمسين عاماً كان «المكتوب» صلة التواصل بين الناس. لم يكن ثمة «واتسآب»، ولا «ماسنجر»، ولا أي من أخواتهما. وكان ساعي البريد بحقيبته الجلدية، ودراجته الهوائية، صديق الكل، يحمل أخبار الغائبين والمغتربين في بقاع الأرض. وكان لـ«المكتوب» خطهم وأخبارهم ورائحتهم. وذلك قبل أن «يتطور» إيصال الرسائل من خلال «صندوق البريد» في المبنى الذي يتوسط المدينة والقرية بمفتاحه المستأجر بمبلغ زهيد.
اختفى ساعي البريد أو وجد عملاً آخر، ليحل محله موظفون يفرزون الرسائل الواردة ويضعونها في الصندوق المدون على غلاف الرسالة. وما عليك سوى أن تفتح الصندوق لتجد الرسائل الواردة إليك أو لا تجد، فتغضب كما غضبت فيروز في أغنيتها عام 1969 بمعرض دمشق الدولي:
كتبنا وما كتبنا.. ويا خسارة ما كتبنا
كتبنا مِيّة مكتوب.. ولهلّق ما جاوبنا
كنّا نبعتلو مكتوب.. يبعت مكتوبين
شو قالولك يا محبوب.. مغيّر من شهرين
آخر مرّة تلاقينا.. تصافينا وتراضينا
إنْ كَنّك زعلان علينا.. عالقليلة عاتبنا
وقتها كانت الرسائل تبدو موحدة بنفس الديباجة عدا أسطر معدودة تتضمن الأهم والهدف منها، مثل: تحية طيبة، أما بعد، أما إذا سألتم عنا فنحن بخير ولا ينقصنا سوى رؤية أنواركم البهية، الصديق العزيز والذهب الإبريز، الداعي لكم بطول العمر، وغيرها التي تشعرك أن الرسالة قادمة من العهد العثماني وأنت في أواسط القرن العشرين.
أسبوع على الأقل ليصل «المكتوب» من مدينة إلى مدينة في نفس البلد. وشهر تقريباً من بلد إلى بلد. على الغلاف طوابع تحمل صور المسؤولين أو الآثار أو ما تفتخر به الدولة.
البعض كانت هوايتهم جمع الطوابع المرسلة من الخارج، وفي مجلات زمان كان ثمة باب للتعارف بين القراء يتضمن الاسم والعنوان، وطبعاً صورة شخصية، وعند الهواية يكتب: جمع الطوابع.
في ذلك الزمن كانت الأمية منتشرة خاصة في القرى، يصل ساعي البريد إلى المختار ويسلمه الرسائل، لكن المختار نفسه لا يقرأ، يرسل وراء «الصحافي»، وهو رجل من أهل القرية تغرب في المدينة وتعلم القراءة والكتابة وعاد مزهواً متفاخراً كالطاووس.
يرتدي بدلة واحدة من بالة المدينة، قميصاً شبه رمادي كان في الأصل أبيض، وربطة عنق مهترئة.
لم يكن صحافياً بل يتأبط دائماً صحيفة، وعندما يصل المقهى يفتحها وكأنه يقرأ لكن عينيه كانتا على الباب لعل أحدهم بيده رسالة يريد منه أن يقرأها له مقابل كاسة شاي أو فنجان قهوة باعتباره.. مثقفاً!
وعند المختار كان «الصحافي» يمارس الدور على أصحاب الرسائل الواردة، يقرأ الرسالة وحده أولاً، وكلما قطب جبينه يخشى المستمعون أن يكون فيها خبراً سيئاً، فيترقبون بخوف سماعه، وعندما يبتسم تنفرج أساريرهم. نقول «يستمعون»؛ لأنه كان يقرأ بصوت مرتفع، فلا أسرار في القرية والكل.. أهل، وربما كانت هذه من إيجابيات ذلك الزمن.
لقد لعب البريد دوراً مهماً في تشكيل تاريخ الأدب العالمي، واعتبر نقطة مهمة قامت على إثرها روايات وصنعت مصائر عدة لشخصيات أدبية، مثلت دائماً الكلمة الختامية التي ينتظرها المشتاقون للوصول لنهاية الرواية. من أشهر الروايات التي دارت عن ساعى ي ن»، للكاتب الأمريكي جيمس كاين. و«مكتب البريد»، لتشارلز بوكوفسكي. و«ساعي بريد بابلو نيرودا»، للكاتب أنطونيو سكارميتا، التي ترجمت إلى 25 لغة، وأخذ عنها فيلم بنفس العنوان، إذ تحكي عن الشاعر التشيلي الاستثنائي، الذي يعتبره كثيرون أكثر عن شاعر، ويضعونه في خانة المبدعين المناضلين ضد كل أشكال القمع والاستبداد حول العالم.
لم نعد اليوم بحاجة لمن يقرأ رسائلنا، ولا إلى صندوق البريد أو إلى «البوسطجي»، فبكبسة زر على الهاتف النقال نرى الرسائل ونرد عليها مباشرة عبر «وسائل التواصل» التي قطعت «التواصل» الجسدي الحميم بين الناس، بل أصبح بإمكان الـ«تشات جي تي بي» أن يستقبل ويرد على رسائلنا!
أما «الذكاء الاصطناعي»، فإنه سوف يحل محلنا في كل شيء.. بمعنى كل شيء!
*كاتب أردني