رينيه ديكارت هو الفيلسوف الفرنسي وعالم الفيزياء والرياضيات الأكبر في تاريخ الفلسفة الحديثة، والملقب بأبي الفلسفة، والذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر، ويعتبر أحد مؤسسي مذهب العقلانية في الفلسفة الغربية خلال هذا القرن. وبالإضافة لإنجازاته الكبيرة والكثيرة في مجالات الفلسفة والرياضيات والهندسة، والتي باتت الجذور البعيدة والحقيقية للثورة في هذه العلوم فيما تلاه من عصور حتى اليوم، فقد أسس ديكارت ما بات يسمى بترجمة غير دقيقة: الصيغة الديكارتية، أو «الكوجيتو»، والتي يلخصها البعض اختصاراً في مبدأ الشك الضروري والمنطقي في كل ما يظن أنه حقائق ثابتة. ولعل أهم وأشهر التطبيقات العربية لمنهج ديكارت كان كتاب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الصادر عام 1926، «في الشعر الجاهلي»، والذي أثار ويثير حتى اليوم خلافات عميقة بين مؤيدين ومعارضين.
مضمون الصيغة الديكارتية مركب للغاية وصعب على غير المتخصصين، ولكن الأكثر شيوعاً هو اختصارها بشكل مخل تماماً في مقولة: «أنا أشك، إذن أنا موجود». والحقيقة أن المضمون الكامل لصيغة ديكارت أكثر شمولاً وتعقيداً بكثير من هذه المقولة المختصرة الشائعة، فهي شبه كاملة: «أنا أشك وأعلم أنني أشك، وبالتالي أنا أفكر، وما دمت أفكر، فأنا موجود». وببساطة فسر شراح ودارسو ديكارت هذه الصيغة، بأنها تبدأ بالشك في حقيقة وجود كل الأشياء والظواهر المحيطة بنا، ولكي تضحى موجودة فعلاً، فيجب ممارسة نشاط «التفكير» في حقيقة وجودها، لكي ينتهي الأمر بإثباته أو بنفيه. بالقطع، الأمر معقد علينا جميعاً كغير متخصصين، لكنه ببساطة يعني أن صيغة ديكارت ومنهجه اللذين أحدثا ثورة تاريخية عبر أربعة قرون، يتضمنان ثلاثة أضلاع مترابطة: الشك – التفكير – الإثبات أو النفي، وهو ما يعني ضرورة استخدامها بهذا الترتيب، عندما يرغب أحد في اللجوء للصيغة والمنهج تجاه أي شيء أو موضوع أو قضية.
هذه المقدمة والتي هي بالطبع معقدة قليلاً أو كثيراً بحسب توجه القارئ الكريم، تبدو لنا صالحة تماماً للنظر إلى حالة التفاعلات واسعة الكثافة على وسائل وصفحات التواصل الاجتماعي المستخدمة في دول عالمنا العربي، بصفة عامة وفي البعض منها بصفة خاصة. فكثير من مستخدمي هذه الوسائل والصفحات، ولا شك من دون علم كاف أو علم أصلاً بصيغة ديكارت، يستندون في تدويناتهم وتعليقاتهم على الاختصار المخل لها في «أنا أشك، إذن أنا موجود». فالمتابع بانتظام وتدقيق لما ينشر على هذه الوسائل والصفحات، يتأكد تماماً من شيوع وهيمنة تلك الصيغة المخلة عليه بنسب عالية للغاية، فكل شيء أو موضوع أو قضية هو محل للشك الكامل من جانب الكاتبين والمعلقين، وبالتالي فهو يستحق وفوراً الهجوم الكاسح عليه منهم باعتباره «كذباً» أو «اختلاقاً»، والسعي لنشر هذا «الشك» على أوسع نطاق.
وهكذا، تبدو هذه الوسائل والصفحات في بلداننا العربية، كأوسع ساحة في التاريخ للشك في كل ما حدث ويحدث من ظواهر وقضايا وموضوعات، بصورة ربما لم يحلم بها ديكارت نفسه عندما وضع صيغته ومنهجه. ولكن الفيلسوف والعالم الفرنسي الأبرز لو كان قد قدر له أن يطالع هذه الساحة بهذا الاستخدام للاختصار المخل لصيغته، واستبعاد الضلع الثاني في الأصلية، وهو التفكير في مدى صحة أو عدم صحة ما يتم الشك فيه، لشعر بعد الاستغراب بحزن عميق على حالنا، وعلى ما آل إليه اجتهاده الفلسفي والعلمي.
تحولت صيغة ديكارت المخلة، «أنا أشك، إذن أنا موجود»، لدى متبنيها من كاتبي ومعلقي وسائل وصفحات التواصل الاجتماعي، إلى ربط هذا الشك العبثي الذي لا يعقبه أي تفكير، بوجودهم نفسه، فإذا توقفوا عن الشك في أي لحظة أو مكان – سواء على هذه الوسائل والصفحات أو في حياتهم الواقعية – فسوف ينتهي وجودهم الذاتي هذا. وهكذا، انقلبت الصيغة الديكارتية المخلة والمنتحلة لدى هؤلاء، إلى عملية نفسية مركبة يستسلمون لها حفاظاً على وجودهم ذاته، فلم يعد أمامهم سوى الاستمرار في حالة «الشك»، التي تحولت في حد ذاتها حالة وجودية لهم.
* باحث وكاتب والرئيس الفخري
لاتحاد الصحافيين العرب