يمر هذا الأسبوع واحد وسبعون عاماً على الحدث الأكبر في التاريخ المصري الحديث ومعه التاريخ العربي وتاريخ العالم الثالث ومعهم تاريخ العالم كله، وهو ثورة 23 يوليو 1952، التي بدأت باسم «الحركة المباركة» لعدة شهور، وتحولت بعدها إلى اسمها الذي شاع واستقر حتى اليوم في الوجدان المصري والعربي: ثورة يوليو.

ككل الأحداث المفصلية في تواريخ الشعوب، لم تكن مسيرة ثورة يوليو، وبخاصة في عقديها الأولين اللذين قادها فيها زعيمها الأبرز جمال عبد الناصر، خطاً مستقيماً من الانتصارات والإنجازات ولا سلسلة متعاقبة من الهزائم والكبوات، بل كانت مسيرتها خليطاً من كل هذا، يتخلله خط ثابت من التغييرات الكبرى الهيكلية أحدثتها في المجتمع المصري ومعه إطاره العربي وحوله دوائر العالم الثالث والقوى الرئيسية في النظام العالمي، الأمر الذي منحها صفة الثورة الأم التي أعطت لبلدها وإقليمها وعالمها كله، ملامح جديدة لم تكن لهم قبلها.

وقد كشفت ثورة يوليو عن جوهرها المؤثر في الإقليم والعالم كله، مع معركة العدوان الثلاثي (البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي ) على مصر عام 1956، حيث ظهرت واضحة تحمل معاني الاستقلال عن النموذج الغربي الصاعد بجناحيه الرأسمالي والشيوعي، وتتجه نحو بناء مشروع داخلي يقوم على فكرتي الاكتفاء الذاتي والعدالة التوزيعية، وتعمل من ناحية ثالثة على صياغة التوحد القومي العربي في صور شعبية ونظامية تتجاوز الحدود السياسية والجغرافية التي كانت قائمة بين الأقطار العربية حينها.

وقد أدى الصمود السياسي الفريد لمصر بقيادة ثورة يوليو في هذه المعركة إلى تحقيق انتصار سياسي هائل لمصر والأمة العربية والعالم الثالث، مصيباً التحالف الغربي بهزيمة سياسية أشد هولاً، مما ترتب عليه إعادة تنظيم توازنات القوة داخل هذا التحالف، بصورة صعدت معها الولايات المتحدة الأمريكية إلى القمة، وغاص الدور الأوروبي القديم المهيمن لقرون طويلة إلى القاع.

وقد ترافق مع بداية هذا الصعود لثورة يوليو الانقسام الدولي الحاد بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة والشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي، وتطوره بصورة مثلت خطراً كبيراً على مصالح بقية دول العالم وخصوصاً الحاصلة على استقلالها حديثاً أو الباحثة عن هذا الاستقلال عن قوى الاستعمار الأوروبية.

ومارس التحالف الغربي المتنوع التشكيل حينها ضغوطه السياسية والاقتصادية الكثيفة على ما بات يسمى دول العالم الثالث، تمييزاً له عن العالمين الغربي والشيوعي، لدفعها للانحياز إليه في الحرب الباردة المستعرة بينه وبين المعسكر الآخر.

وقادت ثورة يوليو ما يعد نهاية معركة السويس العالم الثالث كله في مسار مستقل عن الصراع بين المعسكرين العالميين الكبيرين، متخذة ثلاثة مسارات فرعية متوازية تشكل معاً هذا المسار المستقل.

فالبناء الداخلي المجتمعي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي لمصر، اتخذ أشكالاً متنوعة ومتسارعة من القوانين والقرارات والإجراءات التي غيرت جذرياً من شكل ومضمون المجتمع المصري، الذي وصل في منتصف الخمسينيات إلى واحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم، وبدت مصر بالفعل منارة مضيئة في إقليمها وعالمها الثالث تهفو إليها العقول والقلوب.

كذلك فقد كان مسار السعي لمساعدة كل الدول الشقيقة والصديقة في العالم العربي والقارة الإفريقية للحصول على استقلالها، المسار الفرعي الثاني الذي بذلت فيه ثورة يوليو غاية جهودها المادية والسياسية والإعلامية، بما حقق نجاحات كبرى وجعل من القاهرة عاصمة التحرر الوطني على مستوى العالم الثالث كله.

وتمثل المسار الفرعي الثالث في السعي لتشكيل تكتلات ومجموعات دولية بين دول العالم الثالث لتبلور من خلالها مصالح شعوبها وتقف سداً أمام محاولات الاستقطاب الغربية والشيوعية. وكان في القلب من هذه التكتلات مطلب الوحدة العربية الذي اتخذ أشكالاً وتجارب متعاقبة، بينما مثل تشكيل حركة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز النجاح الأبرز على مستوى دول العالم الثالث.

وخلال أقل من عقدين نجحت ثورة يوليو في مساراتها الثلاثة الفرعية بصور كبيرة مما دفع مسارها الرئيسي مسافات طويلة للأمام، وهو الأمر الذي لم يكن مرضياً لقوى عالمية كثيرة وخصوصاً في التحالف الغربي.

وأتت هزيمة يونيو 1967 القاسية لتكون حصاداً لحالة عدم الرضا هذه بما اكتنفها من تربص، وأيضاً لسلسلة من الأخطاء الداخلية على صعيد نخبة الحكم، لكي تكون الوقفة الكبرى التي وقفتها الثورة مع نفسها منذ قيامها.

إلا أن الوزن التاريخي الكبير لهذه الثورة في مصر والعالم العربي والعالم وإصرار الشعب المصري والعربي على الدفاع عنها، مكنها من الإعداد لتجاوز الهزيمة بانتصار أكتوبر 1973، لتظل ثورة يوليو بعد سبعة عقود من وقوعها الحدث التاريخي الأكبر في مصر الحديثة وفي إقليمها العربي وعالمها الثالث بتأثيراتها العميقة على مجمل النظام العالمي.