الصديق الوهمي!

من عالم الطفولة نكتشف فطرتنا. فقد لاحظ علماء أن نصف الأطفال (%56) قد اخترعوا «أصدقاء وهميين» في سن السابعة. وأن أول طفل في العائلة أو من يسمونهم بـ«الأطفال الوحيدين» هم أكثر عرضة من غيرهم لتخيل مجموعة من الأصدقاء الوهميين في سن مبكرة!

ما اكتشفه علماء النفس من جامعتي واشنطن وأوريغون الأمريكيتين، (بحسب تقرير سكاي نيوز) يذكرنا بفطرتنا البشرية، فنحن لا نقوى على العيش من دون بشر نحدثهم. وربما أكثر ممثل جسد مرارة الوحدة، هو النجم توم هانكس في فيلمه الذي سقطت به الطائرة ليعيش وحيداً في جزيرة نائية. وبعد أن تمكن من جمع كل مستلزمات مأكله ومشربه البدائية من محيطه، تبقى له حاجته النفسية في التحدث إلى بشر. فالتقط كرة ورسم عليها ملامح وجه وأخذ يتحدث إليه بين الفينة والأخرى. ربما ليعبر عن مكنوناته.

وهذه الفطرة في الميل نحو الصداقة والتحدث، نعمة لأسباب عدة منها أننا سنجد من خلالها من ينقل إلينا ثمار تجاربه. فأصدق التجارب تلك التي لا يقوى المرء على البوح بها على الملأ كالفشل، أو التخبط أو سائر القرارات المخيبة للآمال. مشكلتنا أننا يمكن أن نجد صديقاً وفياً، لكن الصاعقة تكون عندما تكتشف في سن متأخرة، أن ذلك «الصاحب» ليس سوى صديق مزيف، تركنا في منتصف الطريق، بعد أن نال مآربه.

قرأت ذات يوم قولاً مأثوراً: وهو أن «الصديق المزيف مثل الظل يمشي ورائي عندما أسير تحت أشعة الشمس، ويختفي حينما أكون في الظل». بالفعل هناك صداقات وهمية، تبتعد عنك عندما تفارق منصباً، أو جاهاً، أو حظوة من أي نوع. أحد الوزراء يشتكي من أن ديوانه صار عامراً بزوار جدد فجأة فور إعلان اسمه في التشكيلة الوزارية وما أن خرج من الحقيبة الوزارية حتى تقلص العدد في الأسبوع التالي إلى أعداد محدودة. هذه حقيقة مرة.

ولهذا تختبر المواقف معادن الأصدقاء. فهناك من ينظر إلى صداقتك «كمركز خدمات» ما أن تتوقف خدماتك، حتى يغادرك ويتركك في صدمة الأسف على سنوات مهدرة مع صديق لم يعرف قط معنى الوفاء.

ويبدو أن الأطفال لديهم قرون استشعار مبكرة، للبحث عن صديق بمواصفات خاصة. ولهذا أطلقوا لخيالهم العنان. وهو أمر لا يدعو للقلق كما تقول الخبيرة النفسية والتربوية والباحثة في الدراسات النفسية للأطفال الدكتورة منى لملوم، في حديث لبرنامج الصباح على سكاي نيوز. ولذلك هي ترى أن التخوف مبرر إذا كان تخيل الصديق الوهمي «بعد» سن السابعة. ولحسن الحظ فإن «الصديق الخيالي يساعد الطفل في إنشاء صداقات أكثر».

وأياً كان مصدر تخيل الصديق، فإن واقع الحال يذكرنا بألا نبالغ في رفع سقف طموحاتنا. فلا يعقل أن نطالب الصديق بتضحيات لا يمكن أن يقدم عليها أقرب الأقرباء. ومعادلة المعاملة بالمثل ليست مبرراً وجيهاً.

ومن الأخطاء التي نرتكبها في بيئاتنا العربية، أن نعتبر كل زملاء العمل أصدقاء مقربين، ونفيق من الصدمة فورما تبدأ شرارة المنافسة. فالعمل ميدان تنافس شريف. وكلما ارتقى المرء في سلمه القيادي، سيجد نفسه مضطراً للامتناع عن كشف معلومات عدة لأقرب المقربين أو من كان يظنه هو صديقه المقرب. وهذا أمر لا يدعو للضجر.

وعندما نتأمل دائرة «الصداقات الخاصة»، نكتشف أنهم قد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. و«الصداقات الأوسع» قليلاً وهم محدودون كذلك. ويليهم دائرة «المعارف» التي يصعب حصرها. زملاء العمل عادة ما يتأرجحون بين آخر دائرتين وقلما تجد فيهم صديقاً خاصاً أو مقرباً.

وهذا ما يدفع البعض للبعد عن تكوين صداقات عميقة من زملاء العمل، تمتد إلى خارج أسواره، لأنها قد تتقاطع مع مصالح ذاتية أو اعتبارات مهنية لا يحبذ البعض الدخول فيها، حفاظاً على مستوى المهنية. ولا يدرك المرء ذلك إلا بعد وصوله لمرتبة قيادية عليا.

خلاصة الأمر أن الصديق يظهر وقت الضيق. وهو من يتقبلنا كما نحن من دون «رتوش». والصداقات الدائمة هي تلك المبنية على التغافل وقبول الآخر. وأمتن الصداقات ما نترك فيها مسافة كافية بيننا وبين الصديق حتى لا نرى كل عيوبه!

الأكثر مشاركة