انتهت القمة الروسية – الأفريقية الثانية التي انعقدت في سان بطرسبرغ يومي 27 و28 من الشهر الماضي، لتترك وراءها ملاحظات ونتائج مهمة وعديدة، لا تتعلق فقط بطرفي القمة، ولكنْ كثير منها يتصل بالتطورات الكبرى التي يعرفها النظام الدولي في الوقت الراهن، والتي بدأت بوادرها قبل سنوات عدة ، وتسارعت بشدة مع دخول القوات الروسية إلى شرق أوكرانيا في 24 فبراير من العام الماضي، ليدخل العالم معها في مرحلة جديدة نوعياً من تطور نظامه.

بدأت التطورات الجديدة في ملامح النظام الدولي قبل أقل من عشر سنوات، عندما تم ضم شبه جزيرة القرم من قبل الاتحاد الروسي في مارس عام 2014، بعدما كانت جزءاً من الأراضي الأوكرانية منذ عام 1954 ضمن الاتحاد السوفييتي. وقد حالت الأوضاع الإقليمية في روسيا وأوكرانيا والدول الأوروبية المتاخمة لهما ومعها أوضاع الولايات المتحدة وبقية الدول الأوروبية، دون إبداء مقاومة تذكر لهذا الضم، الذي يعد الأول والأكبر منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه في ديسمبر عام 1991.

كان ضم القرم لروسيا الاتحادية والعجز الأمريكي – الأوروبي عن منعه، بل والقبول به بحكم الأمر الواقع وليس الاعتراف القانوني، يحمل رسائل عدة مهمة سرعان ما تبلورت شيئاً فشيئاً لتبرز في أوضح صورها مع بدء وتطور الدخول العسكري الروسي الأراضي الأوكرانية في 24 فبراير العام الماضي ولتظل سارية حتى اليوم.

كانت أولى الرسائل والنتائج التي أكدها هذا الدخول العسكري الأخير، بعد «بروفة» أصغر تمت مع ضم شبه جزيرة القرم، هي أن الاعتقاد بنهاية استخدام القوة الخشنة في العلاقات بين الدول التي كانت أطرافاً في الحرب العالمية الثانية وخصوصاً في الأراضي الأوروبية، قد انهار تقريباً. فقد ظل التلويح باستخدام هذه القوة قائماً طوال سبعة عقود بين الاتحاد السوفييتي السابق وبعده روسيا الاتحادية وبين المعسكر الغربي بالقيادة الأمريكية والعضوية الأوروبية، دون أي لجوء فعلي من أيهما تجاه الآخر أو حلفائه الأقربين.

أكد الاتحاد الروسي في ضم القرم ثم ضم المناطق الشرقية من أوكرانيا له عبر القوة العسكرية، أن تحولاً حقيقياً جاري الحدوث في العلاقات بين الطرفين الأكثر قوة في العالم، وأن على كليهما الاستعداد لهذا بجدية كاملة وإنهاء نظرية استبعاده الكامل من كل الحسابات.

وكانت الرسالة والنتيجة الثانية من ضم القرم ثم مناطق أوكرانيا الشرقية للاتحاد الروسي، هي أن استمرار المواجهة – الخشنة وغيرها – بين الطرفين، يستلزم من كل منهما تشكيل تحالفات دولية جديدة أو تنشيط تحالفات قائمة بالفعل، ولكنها افتقدت الحركة منذ وقت بعيد. وهكذا، فبعد أن مر ضم القرم دون تأثير كبير على حلف شمال الأطلسي، الذي دخل بعدها فيما أسماه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2019 بالموت الإكلينيكي، أتت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لتضخ في شرايينه دماء حياة غير مسبوقة منذ تأسيسه عام 1949. وعلى الجانب الآخر، سعت روسيا الاتحادية إلى البقاء وحدها في المواجهة العسكرية للتحالف الغربي كله على الأراضي الأوكرانية، مع حرص وسعي دؤوبين للاستفادة من التناقضات الاقتصادية والسياسية القائمة في النظام الدولي، لكي تشكل حلفاً اقتصادياً شبه سياسي في مواجهة الحلف الغربي، برزت فيه الصين بوضوح وبعدها بقليل الهند والبرازيل وعدد آخر من دول ما يطلق عليه العالم النامي.

وهنا تظهر الرسالة والنتيجة الثالثة ذات العلاقة بالقمة الروسية – الأفريقية الثانية المنتهية قبل أيام، وهي تجاذب قيادات الحلفين المتصادمين لبقية دول العالم وخصوصاً النامية منها، من أجل توسيع نطاقه على الصعيدين الاقتصادي والسياسي من جهة، والاستفادة من هذا في تجاوز نطاق الأزمات الاقتصادية والمالية والغذائية والمتعلقة بإمدادات الطاقة التقليدية، التي خلقتها وبحدة المواجهة المسلحة والعقوبات الاقتصادية المفروضة من التحالف الغربي على روسيا الاتحادية.

وبدا هكذا واضحاً النشاط المحموم المتوجه للقارة الإفريقية من كل الأطراف الدولية: الصين وروسيا من ناحية، والولايات المتحدة بعد غياب طويل والدول الأوروبية التي تراجعت أسهمها كثيراً في القارة خلال العقود والسنوات الأخيرة. وبالتالي، فقد كان مهماً للغاية بالنسبة للقيادة الروسية أن تجتمع القمة الروسية – الأفريقية الثانية في موعدها المقرر منذ القمة الأولى عام 2019، وخصوصاً في الظروف الحالية، لترسخ بها علاقاتها مع دول القارة، وتؤكد أيضاً أن محاولات التحالف الغربي لعزلها دولياً قد باءت بالفشل.

التحركات الكثيفة دولياً على قدم وساق من قيادات وأعضاء التحالفين الآخذين في التشكل، عبر كل مناطق العالم لتوسيع نطاق كل منهما، وهو ما لم يكتمل بعد. ولكن كلاً منهما يحاول أن يسجل في تحركاته نقاطاً لصالحه، تخصم من ناحية من خصمه، وتضيف له لبنات جديدة في بناء يبدو أنه آخذ في الاكتمال والتبلور خلال مدة لن تطول. وقد حققت روسيا بعقد القمة الروسية – الأفريقية الثانية نجاحاً معقولاً في الهدفين.