ساهمت التطورات العسكرية والسياسية الكبيرة المتلاحقة التي شهدتها مناطق مختلفة من القارة الإفريقية، ثم الحرب الروسية – الأوكرانية بتداعياتها، في انتشار واسع لاسم وحالة مجموعة فاغنر العسكرية الروسية، حول العالم كله. ولكن عدداً قليلاً ممن باتوا يعرفون شيئاً أو أكثر عن هذه المجموعة، هو الذي يعرف سر صاحب الاسم الأصلي وتاريخه، وعلاقته بروسيا وألمانيا الهتلرية وإسرائيل.
وإذا كان عامنا الحالي يوافق مرور 9 سنوات على تأسيس مجموعة فاغنر عام 2014، فإن صاحب الاسم يمر على مولده هذا العام 210 أعوام وعلى وفاته 140 سنة. إنه الموسيقار والكاتب الأبرز في تاريخ الأوبرا العالمية والمرحلة الرومانسية في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، ريتشارد فاغنر، الذي يعد العلامة الثانية في هذه المرحلة بعد مواطنه الأشهر لودفيغ فان بيتهوفن، الذي ولد قبله بأكثر من أربعين عاماً.
كان فاغنر عبقرية موسيقية هائلة غيرت مسار الأوبرا في أوروبا والعالم حتى اليوم، سواء في الموسيقى أو التكوين أو الكتابة، وترك وراءه 13 عملاً أوبرالياً لا تزال حية بامتياز، ومن أشهرها رباعية «خاتم نيبيلونغ» و«الهولندي الطائر» و«بارسبفال» وغيرها.
ومنذ عام 1876 وحتى اليوم يقام سنوياً في مدينة بايرويت الصغيرة في جنوب ألمانيا مهرجان عالمي لعرض بعض من أوبرات فاغنر، يحظى بحضور كثيف من عديد من أبرز شخصيات العالم ورموزه في كل المجالات. وتعد أعمال فاغنر انعكاساً مبدعاً للأساطير والقصص التخيلية والفلسفية التي يزخر بها تاريخ ألمانيا، وتتجه في النهاية إلى تمجيد خلاق للروح الوطنية الألمانية التي يتم استلهامها من هذا التاريخ.
ولهذا السبب بالذات وبعد وفاته بنحو 50 عاماً، وبالتحديد مع صعود الحزب النازي لسدة الحكم في ألمانيا عام 1933، أصبح فاغنر هو الموسيقي الأقرب والأحب لمؤسس الحزب والفكرة، أدولف هتلر. احتفى هتلر بفاغنر لحماس وتعبير موسيقاه عن الروح الوطنية الألمانية المفرطة في الاعتزاز بنفسها إلى حد التطرف، وهو ما كان يتبناه الفوهرر وحزبه.
وأضافت بعض تصريحات وكتابات فاغنر مزيداً من إعجاب هتلر به، وهي تخص الموقف من اليهود، والذين لم يخف هتلر قولاً ومذابح كراهيته لهم، ولم يخف فاغنر في بعض كتاباته عدم حبه لهم، ومن أشهرها كتيبه «اليهودية في الموسيقى» وبعض المقالات المتناثرة.
ومنذ قيام الدولة العبرية في فلسطين عام 1948، انفردت عن كل دول العالم بفرض حظر تام على تداول وبيع أعمال فاغنر داخلها، وبالقطع عدم عزفها في أي مكان أو أية مناسبة، بحجة ما اشتهر عنه من آراء تخص اليهود، ولإعجاب هتلر به وتبنيه وحزبه موسيقاه.
ولم يكسر هذا الحظر، الذي لا يوجد وراءه قانون أو قرار، سوى مرتين: الأولى عام 2001، عندما عزف قائد الأوركسترا الأشهر عالمياً، اليهودي دانيال بورنباوم، أوركسترا برلين الشهيرة لمقطوعة من إحدى أوبرات فاغنر، في حفل موسيقي كان مقاماً في القدس.
وكانت المرة الثانية عام 2018، عندما بثت الإذاعة الإسرائيلية العامة عن طريق الخطأ إحدى مقطوعات فاغنر الموسيقية، وهو ما تلاه وفورياً إعلان الإذاعة عن اعتذارها الشديد عن هذا «الخطأ» الذي وعدت بأنه لن يتكرر.
على هذه الخلفية المركبة، يبدو أن مؤسسي مجموعة فاغنر العسكرية قد لجأوا لاسم هذا الموسيقي الأشهر والمثير للجدل ليطلقوه على مجموعتهم. فالمجموعة تأتي ضمن سياق معاصر يعد امتداداً لتيار مجتمعي واسع وقوي للغاية في تاريخ روسيا، وهو التيار المعتز بالقومية الروسية بكل مكوناتها الثقافية والدينية والاجتماعية.
ولا شك أن الجذور التاريخية لما كان يسمى منذ القرن الثامن عشر «المسألة اليهودية»، يقع جزء كبير منها في الأراضي الروسية ومعها بولندا المتاخمة لها، قد ألقت ظلالها على اختيار اسم الموسيقار الكبير على تلك المجموعة العسكرية ذات التوجهات القومية الروسية الواضحة.
وعلى إيقاع الحروب والمعارك وأصوات المدافع، أضحى اسم فاغنر المجموعة العسكرية، أوسع نطاقاً بكثير من صاحبه الموسيقي العبقري، بين مختلف الفئات بين غالبية شعوب العالم، محققة لاسمه وليس لموسيقاه ربما أوسع انتشار جماهيري لأي موسيقار كلاسيكي على الإطلاق.
حقاً إن الحرب بكل ويلاتها أكثر انتشاراً وتأثيراً من أي إبداع موسيقي حتى لو وصل حد الإعجاز.