الشعوب أم البلدان الفاشلة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

«‏ليس هناك شعوب فاشلة.. ولكن يوجد دول فاشلة.. البشر لديهم دافع طبيعي وفطري للنجاح.. والدول هي التي تصنع البيئة التي تحطم هذا الدافع أو تسمح له بصنع المعجزات». هذه التدوينة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في منصة «إكس» تجيب عن تساؤلات لطالما أشغلت أحاديث المجالس.

فهناك من يعتقد أن مشكلة التخلف تكمن في الشعوب وينسى أو يتناسى أنه لولا وجود بلدان قررت أن تتجه نحو النجاح في شتى مناحي الحياة لما توفر للفرد فرص التقدم. فعندما طبقت إلزامية التعليم تلاشت الأمية، وحينما نشرت المستشفيات تراجعت معدلات الوفيات والأمراض الفتاكة، وعندما توفرت وظائف وبعثات خارجية وتعليم نوعي ظهر خيرة الخريجين من أطباء ومهندسين وقانونيين وفنيين من أبناء البلد لأن الدولة قررت أن تمهد لهم طريق النجاح.

وهذا ما فعلته اليابان قديماً حينما أرسلت كبار القياديين الحكوميين والأفراد البارزين والطلاب الواعدين في بعثة أيواكورا، وذلك ليجوبوا الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بحثاً عن كل ما يمكن أن يطور بلادهم. وقد أسهمت البعثة فعلياً في إحداث نقلة نوعية. وقد قرأنا كذلك أن اليابانيين جاؤوا إلى مصر في أوج ازدهارها ليتعلموا منها ما يمكن من قصص النجاح.

لذلك يصعب أن نتخيل أن الشعوب هل التي ترسم فشل بلادها، بل الدولة هي التي تستقطب أفضل العقول في شتى الميادين لتطوير البلاد. وهي أيضاً ما يمكن أن تدخل الشعب في مغامرات خارجية عسكرية عدوانية فتهدم كل ما بنته.

وما أن تفتح الدولة باباً واعداً في الاقتصاد أو الصحة أو التعليم أو غيرها عبر حسن التشريع والتخطيط فسوف يندفع إليها الأفراد ليشكلوا قصص النجاح التي يشار إليها بالبنان. فلا يمكن لشعب أن ينشئ الصناعة الواعدة من دون تدخل الدولة في الاستفادة من كل تجارب البلدان المتقدمة.

‏وهذا ما فعلته ألمانيا حيث كانت بلداً ريفياً سرعان ما استفاد من الثورة الصناعية في تشغيل المصانع الكبرى لمكائن معقدة جعلت من مصطلح «الماكينة الألمانية» أيقونة عالمية للبلاد وجوده صناعتها وجلد أفرادها. إذن الدولة هي التي ذللت كل ذلك لينعم الجميع بثمرة النجاح المشترك.

‏أحياناً أفكر لو أن مصر (طليعة الأمة العربية في القرون الماضية) قد تأخرت عن إنشاء المدارس النظامية 100 عام أو 50 عاماً هل سنحصد هامات كبرى مثل كبار المهندسين والقانونيين والأدباء والمفكرين الذين قادوا حراك الأمة العربية في بداية العصر الحديث؟ والأمر نفسه يحدث في دول الخليج لو أننا تأخرنا 50 عاماً من عصر الكتاتيب قبل أن ندخل في المدارس النظامية وتسير البعثات إلى أفضل جامعات العالم هل كنا سنجني ما جنيناه من تقدم مذهل في المستوى التعليمي لشعوبنا.

فبفضل قرارات الدولة في استثمار الثروة تحولنا من عيادات بدائية إلى تشييد مدن صحية وتعليمية تضم أفضل المستشفيات والجامعات. كل ذلك لأن الدولة «قررت» أن تنطلق نحو طريق التطوير والنجاح.

‏‏وهناك تجربة رائدة في القطاع العام في سنغافورة عندما وجدت البلاد حلاً لمعضلة الأقدمية في الترقيات واستبدلتها بالجدارات competencies لتكون أول مستعمرة بريطانية تفعل بالقطاع العام وربما تخطت بريطانيا نفسها. إذ استفادت من تجارب شركة شل النفطية فصار من الطبيعي أن تجد مديراً شاباً من خيرة الكفاءات يقود مرؤوساً سنغافورياً يكبره في العمر لكنه دونه في الجدارة.

والمتأمل لتجربة سنغافورة يجد نهضة مذهلة في خمسة عقود وهي الفترة الزمنية نفسها التي قطعت فيها دولة الإمارات أشواطاً أذهلت الجميع. فتقدم القطاع العام وتسهلت بيئة الأعمال واستقطبت كبريات الشركات للعمل في بيئة حاضنة وجاذبة. وقد أوقد شعلة التقدم الأولى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.

‏صحيح أن الفرد يستطيع أن ينجح بمفرده من دون جهود دولة لكن النجاح الجمعي هو ما يكون الازدهار والتقدم ويصعب أن يحدث ذلك بمعزل عن الرؤية الثاقبة الحكومية.

 

Email