من الهشاشة إلى القوة

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل بيننا من يولد وهو بائس وفاشل بالضرورة، أو من هو سعيد وناجح بالفطرة؟ المؤكد أن البؤس والفشل والسعادة والنجاح تتداخل وتتشابك في تحقيقها وبلورتها عوامل عدة. الجينات الوراثية وعنصر الحظ تشكل جزءاً، لكن الظروف والأحوال والأجواء التي يتم توفيرها ليكون الإنسان بائساً أو سعيداً، فاشلاً أو ناجحاً بالإضافة إلى حجم ونوعية الجهد المبذول تصنع الفروق بين الأفراد وبعضهم، وتحدد مصائرهم.

كذلك الحال في الأفكار والمشروعات الكبرى التي تهم قطاعاً عريضاً من البشرية، منها ما يبزغ نجمه ويظل بازغاً، ومنها ما لا يعرف طريقه إلى الشهرة والانتشار، أو يخفت بسرعة ولا يتذكره أحد بعد سنوات قليلة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، توقع كثيرون أن يغزو تطبيق «ثريدز» الأثير الرقمي ويطيح بـ«تويتر» تماماً. وشهد الأثير هجرات جماعية مكثفة في أيام «ثريدز» الأولى، ربما بعضها مدفوعاً بالرغبة من الانتقام أو تلقين إيلون ماسك (مالك شركة إكس «تويتر» سابقاً درساً)، ثم خفت «ثريدز». صحيح أن المنافسة لم تنته بعد، وصحيح أن موجات النزوح والهجرة الافتراضية لم تهدأ بعد، لكن الدرس المستفاد أن لا شيء يبقى على حاله، وأن العبرة في نهاية المطاف بمن يجتهد ويبتكر ويبقي على نجاحه ويتأكد من استدامته أكثر.

والدول كالأفراد والمشروعات والأفكار. دول غنية ومتقدمة، وأخرى فقيرة ومتأخرة، وثالثة تقف بين بينين. ويخبرنا التاريخ أن بقاء الحال من المحال، وأن دول الأمس المتأخرة منها ما أصبح اليوم الدول التي تقود العالم وتحدد مصائر الآخرين. ويخبرنا التاريخ أيضاً أن العكس صحيح، فكم من حضارة بازغة وأمم قادت العالم بالعلم والتجارة والقوة والثقافة تعاني الأمرين اليوم.

اليوم نعلم أن ثبات الحال من المحال، لكن الحفاظ على الحال الجيد المرضي المبهج الواعد الإيجابي يتطلب عملاً وجهداً وخروجاً بين الحين والآخر عن المألوف. فالمألوف ثبات، وثبات الحال من المحال، والتغيير هو الثابت الوحيد.

نظرة سريعة على عالمنا اليوم، ولتكن عبر أدوات المؤشرات وهي أصدق وأقصر وأسرع طرق القياس والتي تتيح عقد المقارنات بين الأمس واليوم تخبرنا الكثير. مؤشر الهشاشة مثلاً يخبرنا أن ألوان الهشاشة الصفراء والبرتقالية تظل ممسكة بتلابيب دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. هذا المؤشر يعتمد على أربعة مكونات: سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وبيئية.

يتغير ترتيب هذه الدول قليلاً إلى أعلى أو أسفل، لكنها تظل في بؤرة الهشاشة، وهو ما يعني الحاجة إلى قدر أوفر من العمل والابتكار وعدم الارتكان على حجة التعرض للمؤامرات والتقويض من قبل آخرين. صحيح أن المؤامرات أمر واقع، لكن التحول من خانة الفرد البائس والمشروع الفاشل والدولة الهشة إلى الفرد السعيد والمشروع الناجح والدولة القوية هي أشياء لا تشترى، ولكن تنتزع وتكتسب.

وما أكسبته لنا أحداث العالم في السنوات القليلة الماضية من خبرات ودروس لا تقدر بمال. فمن «داعش» الذي باغت دول المنطقة وغيرها وتحول إلى ما يشبه جماعة إرهابية متعددة الجنسية عابرة للقارات والمحيطات، إلى وباء كوفيد -19 الذي قلب حياة الثمانية مليار شخص مجموع سكان الأرض رأساً على عقب بين ليلة وضحاها، إلى تعاظم الخلاف بين أمريكا والصين، إلى رفع أمريكا يدها فجأة من أفغانستان وكأن 20 عاماً كاملة من محاولات هزيمة طالبان لم تحدث، إلى أمارات التغير المناخي الواضحة المؤثرة على الجميع سلباً، إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى بزوغ تيارات اليمين المتطرف في العديد من دول الغرب، إلى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إلى أوضاع اقتصادية مزرية وأزمة غذاء ونسب تضخم مرتفعة، إلى توغل وتغول الذكاء الاصطناعي على حياة البشرية مع توقعات بالهيمنة وغيرها أمور ترج قائمة الأحداث والحوادث الأرض رجاً.

يقول البعض إن بقاء الدول والشعوب على قيد الحياة في ظل هذه الظروف هو إنجاز في حد ذاته. لكن وجهة نظر أخرى ترى في التغيرات الكبرى والهزات الشديدة التي تحدث في كل مكان فرصة ذهبية للتغيير والمضي للأمام. يبدو التغيير أحياناً أسهل في الأجواء الملتهبة والعاصفة حيث الصخب والحراك بل والفوضى تؤجج أدرينالين التغيير.

أدرينالين التغيير العربي بدأ بالفعل. في المنطقة، دول تنبهت إلى أن قطار التنمية والتطور لا ينتظر أحداً، فبدأت في العمل على النهوض بشعوبها واقتصادها وتعليمها وصحتها قبل سنوات. وبين هذه الدول وعلى رأسها الإمارات من أيقن أن قادماً جديداً اسمه «الثورة الرقمية» أو «الرقمنة والأتمتة» أو «الذكاء الاصطناعي» سيغزو العالم، وذلك قبل ما يزيد على عقد ونصف العقد، فاستعدت واستبقت.

الاستعداد والاستباق والاستدامة تشكل أركان طوق النجاة وأداة الانتقال من خانة المفعول به البائس أو الفاشل أو الهش إلى الفاعل السعيد الناجح القوي.

 

Email