تشايكوفسكي ونابليون وروسيا وأوكرانيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

في شهر ديسمبر من سنة 2017، نشرت هذه الصحيفة الغراء «البيان» مقالاً متميزاً للموسيقي الرفيع وعازف التشيللو السوري أثيل حمدان، بعنوان «افتتاحية 1812... أجراس الحرب والسلام»، للمؤلف الموسيقي الكلاسيكي الأشهر بيتر إليتش تشايكوفسكي.

وبحكم التخصص والخلفية، قدم الفنان السوري تحليلاً رفيع المستوى للأبعاد الفنية المختلطة بالظروف التاريخية المحيطة بتأليف هذه الافتتاحية، التي تعد واحدة من أهم وأشهر معزوفات الموسيقى الكلاسيكية على مستوى العالم في كل العصور.

ونحاول هنا في هذه السطور التطرق لأبعاد أخرى تاريخية وسياسية لهذه الافتتاحية الأبرز، وعلاقتها بما يجري اليوم في روسيا وحرب أوكرانيا وصراع موسكو المتسع مع التحالف الغربي بشقيه الأوروبي والأمريكي.

بداية لن نفرط في التعريف بتشايكوفسكي الذي ولد في روسيا في سنة 1840 وتوفي في سنة 1893، ويعد من أوائل الموسيقيين الروس الذين اشتهروا عالمياً، ومن أهم أعماله 6 سيمفونيات وبعض الأوبيرات، وموسيقى الآلات وموسيقى الحجرة والأغنيات، وعدد من مؤلفات الباليه، ومن أبرزها باليه بحيرة البجع، والجمال النائم، وكسارة البندق، وعدة افتتاحيات منها روميو وجولييت ومانفرد، وبالطبع 1812، وغيرها.

أتى تأليف هذه الافتتاحية التي لا تتجاوز أقصى مدة لعزفها 20 دقيقة، على خلفية مركزية في التاريخ الروسي المعاصر والممتد حتى اليوم فقد ألفها تشايكوفسكي وعزفت المرة الأولى في سنة 1882، احتفاءً بالذكرى السبعين لهزيمة روسيا الجيوش الفرنسية بقيادة القائد العسكري الأبرز نابليون، بعد محاولة فاشلة لغزوها فقد دخل نابليون الأراضي الروسية بجيش هائل قوامه 612 ألف جندي في يونيو من سنة 1812، ولم يكن الجيش الروسي يصل في حجمه إلى نصف قوة الجيش الفرنسي، ما أدى به في البداية إلى اعتماد سياسة الانسحاب التكتيكي لاستدراج القوات الغازية داخل الأراضي الروسية.

وبعد أسبوع واحد من بدء الغزو، دخل نابليون وجيشه موسكو، منتظراً الاستسلام الروسي له.

إلا أنه في الشهر التالي كانت القوات الروسية تواجه بشراسة الجيش الفرنسي ومعها الطقس البارد القاسي والمجاعة لنقص الإمدادات، لتشتعل الحرائق في عديد من مناطق موسكو. ولم يكن أمام نابليون من سبيل سوى أمر قواته بالانسحاب الفوري، لتطارده القوات الروسية ومعها البرد القارس والجوع الشديد، ليظهر من وقتها تعبير «الجنرال الشتاء»، باحتسابه أحد أهم القادة في الجيوش الروسية.

وتشير التقديرات إلى أنه من بين 612 ألف جندي فرنسي دخلوا روسيا، عاد منهم لفرنسا 112 ألفاً فقط، بينما تكفلت القوات الروسية و«الجنرال الشتاء» والأسر والفرار والجراح ببقيتهم، بينما خسر الروس نحو 200 ألف قتيل و150 ألف جريح.

ترتبط هذه الافتتاحية بصورة مباشرة، ليس فقط بالغزو الفرنسي وهزيمته في روسيا في سنة 1812، ولكن أيضاً بالتصور الأبرز في الوعي الروسي القديم والمتجدد بقوة حتى اليوم، عن مصادر الخطر والتهديد الخارجية على ما يطلقون عليه في خطابهم اليومي: «أمنا المقدسة روسيا» فهذه الحرب مع الفرنسيين وهزيمتهم يطلق عليها في القاموس الروسي الشعبي والرسمي «الحرب الوطنية»، بينما يطلق القاموس نفسه مصطلح «الحرب الوطنية العظمى» على ما يسميه بقية العالم «الحرب العالمية الثانية» فالحربان بالنسبة للوعي الشعبي والسياسي الروسي، تأتيان من مصدر تهديد واحد مستمر، وهو ذلك الغرب الأوروبي بمختلف دوله، سواء كانت في المرة الأولى فرنسا وفي الثانية ألمانيا وإيطاليا، وفي الحالتين هما دفاع وطني عن «الأم روسيا المقدسة».

من هنا يبدو واضحاً – لنا على الأقل – تلك الصلة بين افتتاحية 1812، وخلفيتها التاريخية – الثقافية – السياسية، وما يجري اليوم بين روسيا وأوكرانيا والغرب عموماً فما عبرت عنه الافتتاحية من دحر الغزو الفرنسي الآتي من الغرب الأوروبي، يرتبط بصورة وثيقة بالوعي الروسي الشائع اليوم عما يحدث في أوكرانيا وكل الحدود الغربية لروسيا، تجاه هذا الغرب الأوروبي – الأمريكي نفسه، الذي يظل مصدر التهديد الخارجي لروسيا حسب هذا الوعي الموروث تاريخياً.

ويكتمل هذا الوعي في ارتباطه بالحاضر، بتذكره عبر افتتاحية 1812، لنهاية الغزو الفرنسي لروسيا بعد عامين فقط من دحره من أراضيها، إذ دخل ألكسندر الأول قيصر روسيا باريس منتصراً مع الدول الحليفة، في مارس من سنة 1814، ليتم استكمال هزيمة نابليون بإجباره على التنازل عن العرش.

افتتاحية 1812 في أيامنا الحالية في تمجيدها للنصر الروسي ودحر «الغرب» الفرنسي الغازي، تمثل معيناً وانعكاساً لوعي شائع بين الأغلبية الساحقة من الشعب الروسي، بأن «الأم المقدسة روسيا»، قد تهزم أحياناً، ولكنها في النهاية تنتصر.

 

Email