منذ اعتزل التيار الصدري النشاط السياسي وقدم الثلاثة والسبعون نائباً صدرياً الذين شكلوا الكتلة الأكثر عدداً في مجلس النواب التي تمخضت عن انتخابات أكتوبر 2021 استقالة جماعية في يونيو 2022 في مشهد غير مسبوق في أية دولة من دول العالم دون أن يكون هناك سبب مقنع لذلك لدى مختلف الأوساط السياسية وبضمنها المنتسبون للتيار نفسه، كثرت التكهنات حول الظروف التي سينهي هذا التيار في أطرها حالة الاعتزال التي اختارها ليعود إلى المشهد الذي اعتدنا على وجوده فيه كأحد أبرز صناعه وليس كأحد متفرجيه، فالقلق الذي يساور الإطار التنسيقي الحاكم بسبب غياب التيار الصدري لا يقل عن القلق الذي يساوره بحضور هذا التيار.
الواقع السياسي العراقي على درجة كبيرة من التعقيد يختلط فيه ما هو محلي بما هو إقليمي وبما هو دولي، فنحن نجد في فوضى هذا التعقيد العديد من التكهنات حول مدى قدرة حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني على تقديم أداء مقنع في مواجهة القضايا الأساسية التي تشغل الرأي العام، خاصة أنها جاءت لتعلن نفسها حكومة خدمات تسعى للارتقاء بمستواها نحو الأفضل. الحكومة تطلق وعوداً تطمئن فيها المواطن باستقرار سعر الدولار وبالتالي الاطمئنان على وضعه المعيشي، وتطال التطمينات واقعاً مؤرقاً مزمناً وهو التزويد بالطاقة الكهربائية، وتعد بأنه سيكون مختلفاً عن السابق.
حكومة السوداني تقف في مواجهة الكثير والكثير جداً من القضايا الشائكة ليس هناك مجال للخوض في تفاصيلها جميعاً، إلا أننا ننتقي أربعة منها لا غير لخطورتها وارتباطها المباشر بحياة المواطن العراقي، وهي مدى قدرتها على مواجهتها بأداء مقنع يسمح لقوى الإطار الاطمئنان على استمرار نهجها في استبعاد الصدر وأنصاره من التأثير على مسار العملية السياسية.
الملف الأول يتعلق بالإخفاق المزمن للحكومات المتعاقبة في مواجهة أزمة الكهرباء الذي يشهد على ما تجره سياسات تنتهجها حكومات بدوافع لا تحمل نكهة الوطن، فالعراق بلد غني بالثروة النفطية فلماذا تستورد محطات كهربائية تعمل بالغاز الذي لا يتمكن العراق من توفيره لتشغيلها مما يجعله تحت رحمة هذا الجار أو ذاك وتمنحه فرصة فرض سعر البيع بأضعاف الأسعار العالمية؟
أما الملف الثاني فهو حول شحة المياه والجفاف الذي يغزو الأراضي الزراعية دون أن تنجح الحكومة دبلوماسياً وسياسياً في إلزام كل من إيران وتركيا للتقيد بما تفرضه حقوق الدول المتشاطئة في الأنهار مما أصبح يهدد ليس حياة الكائنات الحيوانية والسمكية والنباتية بل أصبح يهدد حياة الإنسان نفسه في العديد من المناطق التي أصبحت تشكو من شحة مياه الشرب.
الملف الثالث يتعلق بمحاربة الفساد والموقف الجدي للحكومة التي أعلنت عند تشكيلها بأن من أولوياتها التصدي له ومكافحته إلا أنها لم تترك لدى المواطن من قناعات سوى أنها غير قادرة على المساس بالرؤوس السياسية الكبيرة التي ترعى الفساد وتشرعن وجوده.
أما الملف الرابع فيتعلق بالدينار العراقي وسعر صرفه أمام الدولار الأمريكي، فهناك عدم قناعة بما اتخذته الحكومة من إجراءات في دعمه بسبب التقاعس أو عدم الجدية في الاستجابة لما تتطلبه العقوبات المفروضة على كل من إيران وسوريا، ومنع تهريب الدولار إليهما مما ترتب عليه وضع ما مجموعه ثمانية عشر مصرفاً أهلياً في القائمة السوداء وحضر التعامل معها وأصاب السوق بشحة الدولار وارتفاع سعر التصريف وأرهق الحالة المعيشية للمواطن.
استحقاقات هذه الملفات لا يمكن أن تتحملها حكومة السوداني وحدها فبعضها حصاد سياسات موروثة ترجع إلى عقود خلت خاصة ما يتعلق منها بملف المياه والتصحر، فالبنية التحتية للمياه في العراق في حالة رديئة بعد عقود من الإهمال وسوء الإدارة من قبل الجهات الفاعلة سياسياً واقتصادياً. إلا أنها من جانب آخر تتحمل وهي على وشك أن تكمل سنة كاملة من عمرها الفشل في انتهاج سياسات محلية وإقليمية تخفف من تداعيات هذه الأزمات لأسباب تتعلق بهيكلية تشكيلها ومساحة حرية قياداتها في رسم سياساتها.
في مقابل هذه الإخفاقات التي يرصدها التيار الصدري بعناية وترقب، صدر عنه مؤخراً قرار بعدم المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات المزمع إجراؤها في ديسمبر 2023، مغلقاً بذلك باب التكهنات حول عودته القريبة إلى المشهد السياسي، تكهنات تعززت إثر جملة مناسبات عرض فيها التيار قوته وعنفوانه في عدد من محافظات الوسط والجنوب وختمها باستعراض قواه في شوارع العاصمة بغداد.