المسمار الأخير في نعش البيروقراطية

رحل عن دنيانا عالم دق المسمار الأخير في نعش البيروقراطية الورقية. ودّعنا أمس عالم الحاسوب الأمريكي جون إدوارد وارنوك الذي ابتكر أشهر صفحة إلكترونية PDF يمكن مشاركتها، وختمها، وتوقيعها إلكترونياً ليسدل الستار على حقبة الملفات الورقية البيروقراطية.

كم من ملف ضاع في دهاليز أروقة الحكومات، والبلديات، والشركات، والمصارف، لأن أحداً نسي أين وضعه.

المفارقة أن جون وارنوك، الأب الروحي للصفحة الإلكترونية «بي دي أف»، لم يكن متفوقاً في دراسته، لكنه شارك في تأسيس نظام «أدوبي سيستمز»، وهي باقة صفحات إلكترونية مهمة، قبل أن يفارق الحياة عن عمر ناهز اثنين وثمانين عاماً. هذه الباقة تتضمن أدوبي الستريتر التي تقدم لنا رسوماً متماسكة لا تتناثر عند تكبيرها. وتتضمن معالج الصور الشهير «فوتوشوب» الذي قام «الذكاء الاصطناعي للصور» على أكتافه على ما يبدو. ولولا هذه الباقة لما تمكنا من قراءة الكتب الإلكترونية التي صارت تصدر لأول مرة في التاريخ حفيفاً إلكترونياً لصوت الورق عند تصفحه!

وعلقت شركة أدوبي على رحيله بقولها: «لقد ترك تألق جون وابتكاراته أثراً لا يمحى على (شركة) أدوبي وصناعة التكنولوجيا والعالم».

بدأت محاولات «وارنوك» الجادة منذ عام 1982، إلا أن مساعيه قد باءت بالفشل بعد رفض المعنيين بها. وبعد نحو عقد كامل تمكن بفضل إصراره من تقديم نسخة مبتكرة من نسق ملف قابل للتناقل بين الناس (بي دي إف)، فأحدث نقلة نوعية في تبادل المستندات حول العالم.

فقد أسهم اختراعه، في حفظ مليارات النسخ المهمة، من أرشيف الحكومات، والصحافة، والقصاصات النادرة التي سيخلدها التاريخ بفضل صيغة «بي دي أف» الرائدة. بعد هذا الاقتراح صار في مقدور أية جهة إصدار وثائق مهمة، وتوقيع عقود مع موردين وعملاء عبر المحيطات بكل سهولة ويسر. وتطورت بي دي أف فصار يمكن تعبئة فراغاتها إلكترونياً في طلبات الفيزا وغيرها، وكان آنذاك نقلة نوعية قبلتها بعض الجهات الرسمية على مضض. غير أنها رياح التغيير ومن لا يسايرها فحتماً ستتخطاه لتلقي به خلفها في صفحات التاريخ البالية.

ولولا منح شركة أدوبي حقوقها للناس بالاستخدام المجاني لملفاتها «بي دي إف» لما كتب لها النجاح والاكتساح العالمي. هذا الاختراع قلل الأماكن التخزينية المكلفة (مخازن الملفات والأرفف) وقلل كذلك المساحات الإلكترونية لرشاقة وخفة الملفات مقارنة بالصورة الثقيلة. فصرنا نتصفح قانون الاتحاد الأوروبي وربما جميع بلدان العالم عبر الهاتف بكل سلاسة.

والمفارقة أن أصل كلمة «أَدُوبِي» قيل إنها تعود إلى مفردة «الطوب» العربية. وهي نوع من الطين يستخدم في بناء الطابوق. ويروى أن اختيارها يعود إلى الطريقة الإبداعية نفسها في الشركة التي تستخدم في تشييد البناء (المستندات) عبر الطوب (الجزيئات الصغيرة التي تكون المستندات). في حين يلهث بعضنا وراء الأسماء الغربية ليضفي عليها قبولاً اجتماعياً!

وقد وصف هذا العالم نفسه بأنه كان «طالباً متوسط المستوى» لكن معلماً أبدى اهتماماً ملحوظاً به في مدرسة أوليمبوس الثانوية، حسبما قال لمجلة خريجي جامعة يوتاه «كونتينيوم» عام 2013 التي نال منها البكالوريوس في الرياضيات ودكتوراه في الهندسة الكهربائية وعلوم الحاسوب.

لا يحتاج المرء أن يكون متفوقاً في دراسته ليشار إليه ببنان الإعجاب، بل يتطلب الكثير من الجد والاجتهاد عله يضع لبنة نافعة في محيطه. وعزاؤنا للملايين من لجان التوظيف حول العالم، التي ترمي بملفات الموهوبين في سلة المهملات عندما لا يحققوا شرط «المعدل الدراسي المرتفع» فيحرمون أنفسهم ومجتمعهم من كوادر بشرية واعدة، لم تطلب سوى فرصة إثبات نفسها في ميادين التنافس.