أطفال في قاع « المتوسط»

في كل أسبوع يغرق أو يفقد ما لا يقل عن 11 طفلاً في البحر المتوسط أثناء محاولة العبور من سواحل جنوب المتوسط إلى شماله، وأغلب هؤلاء الأطفال يسافرون وحدهم، لا أب أو أم أو قريب.

ولأن الطبيعة البشرية تصدم في البداية لدى سماع أو رؤية أو متابعة الكوارث والمصائب، ثم تهدأ ويحل محلها الاعتياد، فإن متابعة ما يجري عبر «المتوسط» من موجات هجرة غير نظامية من جنوبه صوب شماله على مدار ما لا يقل عن عقدين لا يمكن أن تبقي البشرية جالسة على الحافة في حالة صدمة لسنوات.

سنوات الهرب من دول مزقتها الصراعات وأخرى خربها الفقر وثالثة هيمنت عليها الفوضى وباتت مرتعاً لسماسرة الهجرة غير المحسوبة ورابعة انتقلت من براثن «الاحتباس الحراري» ودخلت «عصر الغليان الحراري العالمي» لم تنته بعد. طالت، لكنها مستمرة لأن الأزمات لم تتوقف، وهذا يعني أن قوارب الهجرة لا تتوقف أيضاً، بل اتساع رقعة الفوضى واستدامة الأزمات يعني زيادة محاولات العبور.

لكن يظل عبور الأطفال غير المصحوبين بالأهل وصمة في جبين الجميع، حيث تقدر منظمة «يونيسيف» عدد الأطفال الذين غرقوا أو فقدوا خلال العالم الحالي الذي لم ينته بعد بنحو 289 طفلاً.

وبدلاً من أن يحظى هؤلاء الأطفال بحياة أسرية آمنة وتعليم جيد ورعاية صحية معقولة، تجدهم يقطعون آلاف الأميال براً ثم يتم احتجازهم من قبل سماسرة الهجرة أسابيع وربما شهوراً قبل أن يتم «شحنهم» في قارب متهالك فرص نجاتهم فيه تقل عن احتمالات غرقهم شبه المؤكدة على أمل أن يصلوا إلى الضفة الأخرى من المتوسط.

وإذا كان متوسط الأطفال الذين يفقدون ويرجح أن أجسادهم الصغيرة تستقر في قاع المتوسط هو 11 طفلاً أسبوعياً، فإن العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير. لماذا؟ لأن كل قوارب الهجرة غير النظامية لا يجري تسجيلها أو توثيق من عليها بطبيعة الحال، وإلا باتت الهجرة نظامية ومدروسة!

دراسة ما يجري على متن القوارب والمآسي المتكررة، ليس فقط في «المتوسط» بل أيضاً في بحر المانش الواقع بين فرنسا وبريطانيا وغيرها من مسارات الهجرة غير النظامية بالغة الخطورة، لم تعد تشغل البشرية كثيراً، اعتياد المأساة سبب، لكن بقية الأسباب تكمن في استمرار وتصاعد الكوارث والأزمات التي تؤدي إلى هروب هؤلاء.

بات مشهد القارب الموشك على الغرق أو ذلك الذي غرق بالفعل وسماع صراخ الأهالي بحثاً عن الأب والخال والعم والابن الشاب بين عداد الغرقى تدمي القلوب، لكن حين يتعلق الأمر بالأطفال غير المصحوبين، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً ومأساوية.

وغني عن القول إن المنظمات الأممية والحقوقية والخيرية تدعو دائماً إلى تأمين المسارات وتنظيم الهجرة وعدم صد أو رد الساعين إلى النجاة بأنفسهم من مآسي القتال أو كوارث المناخ، لكن المسكوت عنه هو الزج بالصغار من قبل الأهل أملاً في أن يصل الصغير إلى الضفة الأخرى، ويوفق إلى عمل «دوني» لا حقوق فيه أو ضمانات، ويدخر القدر الأكبر من «أجرته» الشحيحة ليرسلها إلى الأب والأم في الوطن لتعينهم على أثقال الحياة والإنفاق على بقية الأبناء والبنات، بل إن البعض من الأهل يسعى إلى تدبير مصروفات الرحلة المميتة للابن التالي حال وفاة الأول.

المؤكد أن الفقر والجهل والحرب والجفاف والجوع ليست مسؤولية الأهل، لكن الزج بالصغار في رحلة كهذه أيضاً يجب أن يتوقف، فلا العقل أو المنطق أو الدين قادر على شرح ما يجري.

ولا شك أن ما يجري من مآسٍ يومية لن يتوقف إلا بتنمية حقيقية وعلاج للجذور المريضة لا استئصال للأفرع التي ستعاود النمو وهي تحمل المرض ذاته، والعلاج المضمون اسمه «تنمية وتوعية».

في مصر على سبيل المثال، يجري العمل على مشروعات تنموية لمعالجة الدوافع الاقتصادية للهجرة غير الشرعية (غير النظامية)، بالإضافة لحملات التوعية بمضار هذا النوع من علاج مشكلات الفقر. كما تبذل الجهود الرسمية لتطويق ومنع عصابات تهريب البشر من المنبع.

دعم الأمن والسلم الدوليين مفتاح العلاج. وعلاج الفقر وأسبابه من الجذور ضمان استدامة العلاج. وجهود وخطوات مواجهة التغير المناخي لوقف آثاره المميتة التي بدأت تعبر عن نفسها شرط محوري للاستدامة أيضاً.

الأطفال لا يجب أبداً أن يكونوا مشروعاً عائلياً لزيادة رأس مال الأسرة أو لانتشالها من الفقر، وقاع المتوسط لا ينبغي أن يكون مستقر الصغار.

 

الأكثر مشاركة