رائد الدراسات الاستراتيجية

مر على مصر وعلى العالم العربي خلال القرن العشرين المنصرم عدد معتبر من المفكرين الكبار، تعددت مجالات تخصصهم وإنجازاتهم التي تضعهم في مصاف المفكرين بحق. وقد كتب لي القدر شخصياً خلال ما يزيد عن عقود أربعة من العمل البحثي والإعلامي والعام، أن ألتقي مع وأتتلمذ على يد بعض من هؤلاء الأعلام الكبار الذين تعلمت منهم الكثير، ولازالت حياتي العلمية والعملية تحمل حتى اليوم آثاراً عميقة لما تلقيته عنهم.

ومن بين هؤلاء المفكرين الكبار الراحل الحبيب الأستاذ السيد يسين، الذي اشتهر بين كل من زاملوه وتتلمذوا عليه وعملوا معه اختصاراً باسم «الأستاذ سيد». شرفت للمرة الأولى بلقاء الأستاذ في بدايات عام 1982، بعدما كنت قد تابعت بعضاً من كتاباته على صفحات جريدة الأهرام ومجلة «السياسة الدولية» وإصدارات مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أثناء دراستي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والتي كان جزءاً من الدراسة الجادة فيها هو متابعة مثل هذه الأعمال البحثية والفكرية ذات الصلة بالعلوم السياسية. كنت قد أنهيت للتو دراستي الجامعية، وتقدمت للعمل في هذا المركز الأول من نوعه في عالمنا العربي ذو السمعة الكبيرة والتقاليد الراسخة، والذي كان مديره ومؤسسه منذ عام 1974 هو «الأستاذ سيد».

لم ألتق بالأستاذ سيد في الأسابيع الأولى لدخولي المركز، التي قضيتها في اختبارات بحثية «قاسية» أجراها لي على التوالي كل من الأستاذين الدكتورين مجدي حماد وعلي الدين هلال، حتى تم قبولي كباحث مساعد تحت التمرين بالمركز. وفي الأسبوع التالي لهذا القبول، الذي لو أسعفتني الذاكرة كان في شهر أبريل 1982، رأيت «الأستاذ سيد» للمرة الأولى، في «اجتماع الهيئة العلمية» للمركز، في موعده بعد ظهر يوم الأحد أسبوعياً، والذي يضم كل خبراء المركز الكبار وباحثيه القدماء والجدد والباحثين المساعدين أمثالي.

عرفت منذ الاجتماع الأول ثم لقائه معي منفرداً بعدها وحتى آخر لحظات عمره، لماذا هو بالنسبة للجميع «الأستاذ سيد». كانت «اجتماعات الهيئة العلمية» للمركز، كثيفة النقاش عميقة التناول، تعرض فيها مشروعات الأبحاث الجماعية والفردية الجديدة على الحاضرين، فتناقش بصورة مفصلة لا تخلو من بعض النقد وكثير من التعليم والتعلم. وكان «الأستاذ سيد» يقود كل هذا كما ظل يقود المركز باقتدار شديد لمدة عشرين عاماً حتى عام 1994، إلا أن الجزء المفضل لديه في هذا الاجتماع وفي كل لقاءاته الفردية والثنائية مع الجميع، هو عرض وقراءة آخر ما أنتجته المكتبة العلمية في مصر والعالم حول موضوعات العلوم السياسية والاجتماعية والقانونية التي يتصل بها عمل المركز ويهتم بها بصورة خاصة ودائمة «الأستاذ سيد».

كانت القراءة هي الهواية والاحتراف الدائمين لأستاذنا، ولم يشاهده أحد طوال أعوام عمله إلا وهو يحمل كتاباً أو دورية يقرأ منها ويطلع من يجلس معه على أبرز ما جاء في سطورها وصفحاتها حيث كانت القراءة هي حياة «الأستاذ سيد» وكان يحث كل من يحيط به على أن يعيش هكذا، وكان سؤاله الدائم لنا، نحن تلاميذه، ماذا تقرأ الآن؟ ملحقاً هذا بالاستفسار عن أبرز الأفكار التي وردت فيما قرأناه. وأنفق الرجل كل دخله طوال عمره – وكان دوماً دخلاً متواضعاً - على أحدث الكتب والمطبوعات التي تصدر في العالم كله باللغتين اللتين يجيدهما، الإنجليزية والفرنسية، بالإضافة للغة العربية بالطبع.

أما الباحث والكاتب السيد يسين، فقد كان هو الذي علمنا وعلم ثلاثة أجيال على الأقل من الباحثين والكتاب – ومعه مجموعة أخرى من الأساتذة الكبار – معنى النقد العلمي الرفيع عبر كتاباته التي اتخذت كل الأشكال من المقال والدراسة والكتاب وحتى الموسوعة.

وعلى يدي «الأستاذ سيد» وجيله من الكبار، تعلمت هذه الأجيال، معنى الكتابة العلمية المحترفة والمسؤولة اجتماعياً ووطنياً. ولم يكن «الأستاذ سيد» طوال مسيرته البحثية التي طالت لنحو ستة عقود، باحثاً في أي لحظة عن منصب ولا عن وجاهة ولا عن مال، وظل طوال حياته قانعاً بأقل الأشياء التي تكفي فقط لحفظ الحياة ومتابعة قراءته وكتابته وبحثه. كان يعيش بالفعل، وحقيقة وليس بالمعنى المجازي، في صومعته بمكتبه بمركز الدراسات أو ببيته البسيط، راضياً سعيداً بآلاف الكتب والأوراق التي تحيط به ولا يستطيع أن يعيش أو يتنفس سوى الهواء المختلط بحروفها وسطورها.

أستاذنا «الأستاذ سيد» (1933 – 2017)، بدأ مع مركز الأهرام مسيرته منذ تأسيسه عام 1968، ثم إعادة تأسيسه على يديه عام 1974، لكي يدخل للمرة الأولى في ثقافتنا ودراستنا العربية مصطلح ومفهوم الدراسات الاستراتيجية بمعناها الصحيح والقويم. وله عشرات المؤلفات التأسيسية، منها «أسس البحث الاجتماعي»، و«التحليل الاجتماعي للأدب»، و«الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر»، و«مصر بين الأزمة والنهضة»، و«تحليل مفهوم الفكر القومي»، و«آفاق المعرفة في عصر العولمة»، وغيرها كثير مما جعل المكتبة السياسية والاجتماعية العربية بعد السيد يسين تختلف كثيراً عما كانت عليه قبله.

الأكثر مشاركة