كلما قرأت خبراً عن تحوّل صحيفة عربية أو دولية من الإصدار الورقي إلى الموقع الإلكتروني، ضاقت نفسي.
يحضرني على الفور حجم المعاناة التي صرت أتكبدها لتتبع بعض الصحف الأجنبية على الشبكة العنكبوتية، ليس فحسب بسبب الضوء الذي بات علمياً يؤثر في شبكية العين ويسهم في إضعاف الرؤية، لكن لأنه يضعني أيضاً أمام حقيقة فشلت في تجاهلها، واكتفيت بالنقمة عليها، وهي أن المتغيرات المتلاحقة وغير المستقرة على حال لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، حرمتني من متع صغيرة غالية ولا تقدر بثمن؛ متعة الهدوء والرضا.
ثورة الاتصالات أطاحت بالعلاقة الحميمة الغائرة في عمق النفس التي ربطت جيلي بقراءة الصحافة الورقية، وكتابة المقالات والرسائل الشخصية بالورقة والقلم.
كما أغرقتنا في عالم افتراضي تتضارب فيه المصالح ويكثر فيه الاستهلاك وتنمو فيه التفاهة العابرة للقارات، لكن الأهم أنه عالم بلا روح، يخلو من المشاعر ولا يأبه بالعواطف والرغبات. وهل تفعل الصحيفة الورقية ذلك؟ نعم تفعله، وهل تنسم عبير وردة كرؤيتها على شاشة زجاجية مسطحة؟!
الصحيفة الإلكترونية خدمة لا شك فيها لقرائها، لكن اتساع نطاق متابعيها على حساب الإصدار الورقي لا يعني أنها الأفضل، لاسيما أنها فشلت في ملء الفراغ الذي أحدثه تراجع قراءة نسختها الورقية.
لم تنجح في إزاحة الإصدار الورقي عن المكانة التي راكمها عبر عصور سابقة. وقراءة الصحيفة الورقية والكتاب الورقي تنعش الذاكرة، هذا فضلاً عن أن المشاعر والأحاسيس والحميمية الإنسانية لا تزال تشغل حيزاً كبيراً ومؤثراً في حياة البشر.
قبل أيام شاعت أنباء عن توقف صحف يومية في القاهرة عن الصدور تمهيداً للتحول إلى الإصدار الرقمي. ومع الارتفاع الهائل في تكاليف الطباعة والإصدار الورقي، يشتد الجدال في المنتديات الحوارية حول المستقبل الذي تنتهي إلى ضفافه الصحافة الورقية نهائياً.
قبل سنوات كانت الفنانة الاستعراضية نيللي بطلة لحلقات تلفزيونية تثبت خلالها بطلتها الجميلة وخفة روحها أن حياة الإنسان من المهد إلى اللحد هي محض ورق.. ورق.. ورق.
وقبل بضعة شهور صدر في القاهرة قرار بتحويل ثلاث صحف مسائية مملوكة للدولة من النسخة الورقية إلى موقع إلكتروني ومعه تجدد الوجع، فبينها صحيفة «المساء» التي تحتل مكانة رفيعة في تاريخ الصحافة المصرية، لم تكتب قصتها الحقيقية بعد.
ويروي مؤسسها «خالد محيي الدين» في كتابه «الآن أتكلم» جانباً من تلك القصة، فيقول إنه حين عاد من منفاه السويسري، عرض عليه الزعيم جمال عبد الناصر اقتراحين للسماح له بالعودة للعمل العام وممارسة النشاط، إما أن يتولى منصب سفير مصر في إحدى الدول الاشتراكية، أو يصدر صحيفة مسائية معبرة عن التيارات اليسارية، وحين سأله خالد لماذا جريدة مسائية، أجابه عبد الناصر لكي تكون محدودة الانتشار والتأثير.
وهكذا صدر العدد الأول من «المساء» في 6 أكتوبر عام 1956، وخيب نجاحها كل التوقعات بارتفاع أعداد توزيعها واتساع تأثيرها. فقد أصبحت منبراً لبلورة الاتجاهات التقدمية والاشتراكية في معظم مجالات الثقافة والفكر والإبداع.
وعرف شعر بيرم التونسي وفؤاد حداد طريقه للنشر على صفحاتها، بما شكل دعماً لاتجاه شعر العامية المصرية في مواجهة من كانوا يحاربونه ويشككون في قيمته الفنية. وتألق على صفحاتها قادة العمل السياسي والفكري والثقافي.
وغدت المساء بما انطوت عليه من روح جديدة، صاغتها مواهب كوكبة من المثقفين والكتاب والمفكرين والصحافيين وفناني الإخراج الصحافي ورسامي الكاريكاتور، مدرسة لصحافة الرأي، التي تغتني بالتعدد، وتثري بالاختلاف والتنوع. لكن التطورات السياسية في مصر والمنطقة العربية عجلت بإنهاء تلك التجربة الصحافية الفريدة.
بعد إتمام الوحدة المصرية مع سوريا وتولي عبد الكريم قاسم حكم العراق، أخذت شقة الخلاف بين الرئيس عبد الناصر وقوى اليسار تتسع، بعد اعتراضهم على شروط قيام الوحدة، وقاد الخلاف إلى حملات الاعتقال الشهيرة في يناير عام 1959، وشملت تلك القوى والأعضاء المنتسبين إليهم، وكان من بينهم معظم كتاب وصحافيي صحيفة المساء. وفي 13 مارس من العام نفسه تمت إقالة خالد محيي الدين من رئاسة تحرير صحيفة المساء.
وإذا كان أحد تعريفات الحرية لدى بعض فلاسفة اليونان هو التوجه العقلي للإنسان القوي أمام الإحباط وخيبة الأمل، لأن رغباته وقراراته لا تنطوي علي أي شيء خارج ذاته، فسوف تظل الاستجابة لذائقة أمزجتنا توقاً لتلك الحرية وتظل قراءة الصحيفة الورقية والكتاب الورقي متعة تجلب الرضا في عالم يحفل بالصخب والضجيج ويخلو من المشاعر ويخاصم الطبطبة!