دروس الحكيم

الحكمة المستنيرة هي ثمرة الحياة الخصبة المعطاءة، وقديماً وحديثاً نادرة هي الشخصيات القادرة على التحديق بعين البصيرة في مسيرة الحياة، واستلهام دروسها العميقة، لذلك كان عدد حكماء الحياة قليلاً مقارنة بالأعداد الهائلة للبشر، وربما اكتفت ثقافة كثيفة العدد بحكيم واحد يخلد رؤيتها ويصوغ فلسفتها لهذه الحياة، فالحاجة إلى الحكمة ودروس الحياة هي حاجة معنوية لا تقل في أهميتها عن الحاجات المادية للإنسان والمجتمع، ولذلك يتم تدوين هذه الشذرات النادرة الملهمة للأجيال، والدروس العميقة التأثير في الروح الإنسانية على مر الأجيال والعصور.

في دولة الإمارات هناك جذر عميق التأثير في بناء الشخصية وإدارة الدولة، وإلهام الأجيال هو جذر الحكمة ودروس الحياة، وهي دروس ليست مستفادة من مجرد التأملات بل هي ثمرة العمل الدؤوب، والسعي الحثيث، والإنجاز الفريد بحيث نجد أن هذه الدروس قادرة على التأثير العميق في الإنسان لأنها مستلهمة من قلب الواقع، ونلمس آثارها العملية أمام الناظرين، وكم كانت بلادي محظوظة حين مَنّ الله عليها بكوكبة من رجال البصيرة والحكمة ممن وضعوا أيديهم الأصيلة في يد الباني المؤسس حكيم الجزيرة طيّب الذكرى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، يسانده ويعاضده فارس مكتوم طيّب الذكرى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، فكانت هذه النشأة المباركة لهذه الدولة الناهلة سياستها من معين الحكمة، والبانية لمسيرتها من نور البصيرة بحيث تميزت من بين جميع الدول بهذا الإيقاع الهادئ الرشيد في بناء الدولة والإنسان.

ولأن الإمارات بلد متواصل الحلقات متماسك البنيان فلم تكن هناك قطيعة بين مرحلة وأخرى من مراحل بناء الدولة، فظل الطابع الحكيم عميق التأثير في تشكيل الوعي وبناء المسيرة، وكان لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، أعمق الأثر في ترسيخ طابع الحكمة وتجذير فكرة الدروس المستفادة من مجريات الحياة، وها هو يطالعنا بين الحين والآخر عبر منصات التواصل الاجتماعي بشذرات نادرة من خبرته الفذة في الحياة عبر وسم «علمتني الحياة» حيث يسطر لنا بحروف من الذهب خلاصة رؤيته للحياة، وعصارة فكره في بناء الروح الإنسانية وتشييد أركان الدولة، وإعلاء شأن الحضارة وقيمة الإنسان.

في هذا السياق الرائع من التواصل مع أبناء شعبه نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تدوينة بديعة على حسابيه في منصة «إكس» وانستغرام تحت هذا الوسم الفريد قال فيها: «علمتني الحياة: أن لا أقيس عمر الإنسان بسنوات حياته بل بقدرات عقله وعمق وعيه»، وهذه واحدة من حقائق الحياة الكبرى التي ربما تخفى على النظرة القصيرة للحياة، فالحياة التي تستحق اسم الحياة هي تلك الحياة التي يكون فيها الإنسان متمتعاً بقواه العقلية، موظفاً لنعمة العقل في بناء أروع صور الحياة، مستلهماً بعقله وبصيرته خبرات الآخرين وملامح الإبداع في مسيرتهم، فهذه هي سمة الإنسان العاقل الرشيد، فالوعي العميق والنظر النافذ والبصيرة القوية هي جوهر الإنسان الحقيقي، وإلا فإن البنية الجسدية قوية كانت أو ضعيفة ليست هي المعيار الحاكم على شخصية الإنسان وجوهره الروحي العميق.

«وأن لا أقيس عمر الدول بتاريخ استقلالها بل بإنجازاتها التي يكتبها التاريخ»، وهذا درس آخر من دروس الحياة التي نفذت بصيرة صاحب السمو إلى حقيقته، فالدولة لا يقاس عمرها بمجرد تاريخ استقلالها بل بطبيعة الأثر القوي الذي تتركه خلال مسيرتها، وها هي دولة الإمارات التي مضى على استقلالها خمسون عاماً ونيّف هي خير نموذج على عظمة العطاء وعمق الحضور على مستوى المشهد العالمي، حيث تقدم نموذجاً حضارياً ملهماً متقدماً في جميع المؤشرات الحضارية التي جعلت منها رقماً صعباً يحسن استغلال ثرواته في بناء الدولة والإنسان وتوسيع آفاق الوعي لدى أبنائه والزج بهم في قلب التحديات، فهي دولة ليست مسترخية على ثرواتها النفطية بل هي مفتوحة العينين على كل ما من شأنه أن يحقق للإمارات أعلى مراكز التميز، ويمنحها فرصة تنويع مصادر الدخل والتطور، مما جعلها حقاً وصدقاً نموذجاً حضارياً متميزاً على المستويين الإقليمي والدولي.

«وإن الدول العظيمة ليست مجموعة مؤسسات قوية، بل مجموعة قيم وأخلاق ومبادئ تتمثل على هيئة بشر»، وبهذه الخاتمة الجليلة يؤكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على المحتوى الثمين لهذه التدوينة البديعة، فالدولة لا تقاس قوتها بمجموعة المؤسسات القوية التي تبنيها، ولا المشاريع الضخمة التي تنجح فيها بل سر قوتها في روحها المعنوية وموقفها الأخلاقي من هذه الحياة، حيث تحافظ على مبادئها، وتعمل على نشر منظورها الأخلاقي بين الأمم والشعوب، وتسعى بكل طاقتها لترسيخ قيمها الثقافية بين بني الإنسان، ومن ينافس الإمارات في هذا المجال على وجه الخصوص، فهي الدولة التي تتفوق على الدول الكبرى في حجم العطاء، ونشر قيم الخير، وترسيخ المعيار الأخلاقي في الحياة في عصر يموج بالنظرة المادية الضيقة، والرؤية المصلحية التي لا تقيم وزناً إلا لمعيار الفائدة، لتظل الإمارات بلداً متميزاً برؤيته النبيلة وأخلاقيته الحضارية التي تم بناؤها بشراكة كاملة بين نمط فذ من القادة الحكماء المستنيرين وبين شعب يتصف بكل قيم النبل والسماحة والحنكة والذكاء، فهو يعطي ويعرف لماذا يعطي، ويُقْدِمُ على ميادين الخير مدفوعاً بقيمه الأخلاقية الرفيعة المستلهمة من دينه وثقافته وعاداته وأصالته الحضارية الضاربة في أعمق نقطة من تاريخ الحضارة والإنسان.