راشد عبدالله النعيمي.. من روائي ومهندس بترول إلى وزير للخارجية

منذ تأسيس دولة الإمارات في الثاني من ديسمبر 1971، تعاقب على منصب وزير خارجيتها ثلاث شخصيات بارزة، أولها معالي أحمد خليفة السويدي، ثم معالي راشد عبدالله النعيمي، ثم سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية، حيث تسلم سموه مهامه منذ العام 2006.

كانت تلك مقدمة للحديث عن ابن بار من أبناء الإمارات، نجح في تمثيل بلاده خير تمثيل في المحافل العربية والأجنبية، وشخصية محنكة ومؤثرة، استطاعت أن تخدم وطنها بإخلاص في أكثر من مجال وموقع، فسجل اسمه بماء الذهب في سجلات العطاء الوطني.

الإشارة هنا إلى معالي راشد بن عبدالله النعيمي، الذي استلم حقيبة الخارجية في حقبة عربية مضطربة، ومليئة بالأحداث والمتغيرات المتسارعة، فكان شاهداً على الكثير من الوقائع التاريخية، التي يختزن تفاصيلها وخلفياتها ودقائقها في ذاكرته، وهو ما جعل الكثيرين يلقبونه بــ «خزانة ذاكرة الإمارات والخليج»، خصوصاً أنه تنقل قبل ذلك في مناصب نفطية وإعلامية وثقافية وسياحية، فعاصر تحولاتها وتطوراتها.

ولد معالي راشد عبدالله النعيمي بإمارة عجمان سنة 1937، ونشأ وترعرع في صحرائها نشأة بدوية، متشرباً ثقافة وعادات وتقاليد البادية، ومتكيفاً مع أوضاعها المناخية الصعبة. وبعد أن أنهى شيئاً من تعليمه الأولي في مدارس الإمارات المتواضعة آنذاك، ارتحل إلى قطر، حيث كانت القبائل في تلك الفترة تتنقل وتتمازج، فإن لم تجد مطلبها في بلد، انتقلت إلى البلد المجاور، حيث امتداداتها وأهلها.

وهكذا حل النعيمي في الدوحة، التي وجد فيها ما يناسبه من التعليم النظامي مع الإقامة والإعاشة في الأقسام الداخلية، خصوصاً أن قطر كانت قد شرعت في مطلع خمسينيات القرن العشرين، بتأسيس المدارس الحديثة، تحت إشراف دائرة للمعارف، برئاسة الشيخ عبد العزيز بن محمد المانع، المكلف من قبل المغفور له، الملك عبدالعزيز آل سعود، بمساعدة قطر في تطوير تعليمها.

وفي هذا السياق، أخبرنا النعيمي في حوار مطول، أجراه الأستاذ جميل الذيابي مع معاليه في أبوظبي، ونشرته صحيفة عكاظ (22 - 11 - 2016)، أنه كان ضمن القلة التي واصلت تعليمها الثانوي، وتحملت ضيق المكان وندرة الوسائل.

كما أخبرنا أنه تلقى في الدوحة تثقيفاً دينياً عربياً من خلال معاهدها الدينية، وعلى أيدي مشايخ أجلاء، مثل عبدالله بن زيد آل محمود، وعبدالله بن إبراهيم الأنصاري، وعبدالله بن تركي السبيعي، وهو ما وفر له تعلم مبادئ وأصول الدين، ودراسة المنطق والبيان والبلاغة والنحو والتجويد منذ صباه، الأمر الذي أهّله ليصبح خطيباً للجمعة في قطر، ومساعداً لقضاتها، قبل أن يصبح لاحقاً واحداً من رواد الأدب والرواية في دولة الإمارات.

تخرّج معالي راشد عبدالله النعيمي في مدرسته الثانوية بتفوق، فقرر أن يواصل تعليمه الجامعي. ولأن الإمارات، ومعها دول الجوار، خلت وقتذاك من مؤسسات التعليم العالي، راح يراسل عدداً من الجامعات، على أمل نيل القبول في إحداها.

وبالفعل، حصل على القبول في جامعات لندن وطهران والقاهرة، وبعض مؤسسات التعليم الديني العالية في السعودية، لكن قلة إمكاناته المادية حالت دون ذلك، إلى أن جاءه الفرج بالحصول على ابتعاث من الحكومة القطرية للدراسة على نفقتها في مصر.

كان خياره الأول، هو دراسة الطب البشري بجامعة القاهرة، وهو لئن التحق بطب القاهرة فعلاً، إلا أنه سرعان ما تحول عنها إلى دراسة هندسة البترول، التي كانت في تلك الفترة مطمحاً للشباب، لأهميتها بالنسبة لأقطار الخليج النفطية، وهدفاً من أجل الارتقاء بالذات، من خلال العمل في المنشآت البترولية الوليدة، ناهيك عن شغف النعيمي الكبير بمادة الفيزياء والرياضيات والمواد العلمية بصفة عامة.

وفي القاهرة، ورغم أعباء الدراسة والاغتراب، وجد بعض الوقت لممارسة هواياته الأدبية، فأنجز عمله الروائي الأول الموسوم بـ «شاهندة»، وهي من أوائل الروايات في تاريخ الإمارات الأدبي.

يقول مؤلفها إنه عرضها على الراحل الدكتور غازي القصيبي، الذي زامله في جامعة القاهرة، وتعرف إليه، وارتبطا ببعضهما فكرياً، فأعجب القصيبي بها، خصوصاً أن الرواية كتبت بأسلوب سهل بعيد عن التعقيد، وكانت محاولة من صاحبها للتعبير عما يجول بخاطره من مواقف وأفكار في شكل حكائي، ودون تقنيات أدبية معينة.

تخرج معاليه في عام 1967 في جامعة القاهرة، حاملاً بكالوريوس الهندسة البترولية، ثم أضاف إليه دراسات في اقتصادات النفط، ليعود إلى الدوحة، ويعمل في شركة نفط قطر لعدة أعوام، قبل أن يفاجأ بحدث غيّر مجرى حياته.

ولم يكن ذلك الحدث سوى زيارة قام بها المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيب الله ثراه - إلى قطر، في بداية تولي سموه مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي، في الستينيات، واجتماعه هناك بأبناء الإمارات المغتربين، وحضهم على العودة إلى وطنهم للمساهمة في نهضته وازدهاره.

هنا، كان معالي راشد عبدالله النعيمي في مقدمة من لبوا نداء الوطن، فعاد إلى وطنه، الذي لم ينقطع عن زيارته إبان السنوات العشر التي قضاها في قطر. كانت الإمارات وقت عودته تسابق الزمن لتهيئة أوضاعها السياسية، مع قرب موعد الانسحاب البريطاني من شرق السويس، وكانت محادثات الاتحاد التساعي تجري بوتيرة متسارعة، وهو ما كان متوافقاً مع أفكار النعيمي الوحدوية العروبية، وأحلامه في أن يرى أقطار الخليج موحدة.

حاز النعيمي على ثقة المؤسس المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وكان من نتائج ثقة الشيخ زايد فيه، أنه أوكل إليه العديد من المهام والمناصب، قبل قيام الكيان الاتحادي وبعده.

ففي الفترة ما بين عودته إلى أبوظبي من الدوحة سنة 1970، وتوليه حقيبة الخارجية، شغل النعيمي مناصب: نائب مدير دائرة شؤون النفط في إمارة أبوظبي، مدير دائرة النفط بإمارة أبوظبي، مدير دائرة الإعلام والسياحة في أبوظبي، وكيل وزارة الإعلام والسياحة في الحكومة الاتحادية، سفير بوزارة الخارجية، مدير الإدارة العامة للشؤون السياسية بوزارة الخارجية، قائم بأعمال وكيل وزارة الخارجية، وزير دولة للشؤون الخارجية. وما بين هذا وذاك، واصل دراسته لنيل ماجستير العلاقات الدولية من الولايات المتحدة.

وحينما تولى حقيبة الخارجية، خلفاً لمعالي أحمد خليفة السويدي، لمع اسمه في محافل الدبلوماسية العربية والعالمية، وساهم بدعم وتوجيه من المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في رسم القرار الخارجي للدولة، وكان موفده الأمين إلى مناطق الأزمات للوساطة ورأب الصدع، كرحلته التاريخية إلى بغداد، لإقناع الرئيس صدام حسين بالخروج من العراق، والقدوم إلى الإمارات، تجنباً لحرب أمريكية ضد بلاده.

وخلال هذه المسيرة من التنقلات التي زادته خبرة واطلاعاً ومعرفة بدهاليز السياسة والإدارة، برز الرجل كواحد من المحللين السياسيين والثقافيين في الإمارات، بدليل مقالاته الصحافية المنشورة في المطبوعات المحلية والعربية، وندواته ومحاضراته حول التجارب التي مر بها الكيان الاتحادي، وجهود بُناته، وحول خفايا الصراعات العربية وحروبها، كما تسنى له في عام 1972، إصدار أول مؤلف محلي يتناول التجربة الرائدة لاتحاد الإمارات، تحت عنوان «زايد.. من مدينة العين إلى رئاسة الاتحاد»، والذي تصدرته مقدمة قال فيها: «إني أتحدى من يقول إني بالغت.

إني كتبت عن صدقي وإيماني وقناعتي.. صدقي بكل ما يقوله الرجل.. إيماني بما أنجزه الرجل.. وقناعتي بمسيرة زايد».

منحه عمله وزيراً للخارجية، فرصة لقاء عدد كبير من المسؤولين والوزراء والقادة العرب الراحلين. وفي حواره آنف الذكر، مع رئيس تحرير صحيفة «عكاظ»، أعطى رأيه في بعضهم، من وحي أحاديثه وتجاربه معهم، فقال عن الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز، رحمه الله، إنه كان ينصت باهتمام إلى مقترحات الآخر، ويحب أن يرى دول الخليج مجتمعة، وفي أفضل حال.

وقال عن الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، إنه كان وقت أزمة الخليج الثانية، قائداً قوياً وصامداً، ولم يكترث بالأبواق التي حاولت أن تغطي على الموضوعية، مضيفاً: «الناس حينما تأتي لتقرأ التاريخ، سيعرفون ويعتزون بتاريخهم ورجالهم، ويعرفون أن عندهم في الخليج رجالاً وفكراً».

وقال عن زميله، الراحل، الأمير سعود الفيصل، إنه كان بينهما تبادل دائم للأفكار، وتعاون وثقة متبادلة، وأنهما كانا يتفقان ويختلفان، لكن كانا يعرفان كيفية الوصول إلى تفكيك وحل أي عقدة.

أما عن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، فقد قال ما مفاده، إنه مرت عليه ظروف كان محتاجاً لنا فيها، فكان يدارينا ويراعينا، ويطلب منا العون قبل أن تمر عليه ظروف أخرى، جعلته يفرق الصف العربي، بتأسيس منظومة عربية (مجلس التعاون العربي)، تكون تحت إمرته، وتسير وفق هواه، مضيفاً أنه كان في وقت ما خير من يتحدث عن الأمن القومي العربي، وخير من يهتم بالأشياء العربية، بما فيها القهوة العربية، ثم انقلب حاله، فكان يكسر الفنجان الذي يشرب فيه القهوة العربية.

وقال عن ياسر عرفات، الذي عرفه من أيام دراستهما بجامعة القاهرة: «عرفات رجل دمث وجيد، وظلت علاقتنا طيبة. وكنت أقول له، عندكم أكثر من عشر جبهات تحرير، فلماذا لم تتحرر فلسطين؟».

وبعد أن قابل العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، خرج بنتيجة مفادها أنه رجل مزاجي ومتقلب «فكان شاباً ثورياً متحمساً لأمته وقضاياها، ومنها إلى استخدامه المؤامرات، والاغتيالات، وقتل الأبرياء، فمر بأطوار كثيرة، ونهايته كانت مأساوية».

كما تحدث معالي راشد عبدالله النعيمي، الذي يعتبر كل الشعب السعودي أهله وأصدقاءه، في ذلك الحوار، عن بعض المنعطفات الهامة في التاريخ العربي المعاصر، من تلك التي كان شاهداً عليها، فقال عن موضوع اتحاد دولة الإمارات، إن السعودية والكويت كانتا تدعمان الاتحاد، وموفديهما (الأمير نايف بن عبدالعزيز والشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح)، حيث يحضران اجتماعات تأسيس الاتحاد، بينما كانت إيران ونصف العرب ضد الفكرة.

وعن مجلس التعاون الخليجي، الذي انطلق من أبوظبي سنة 1981، أكد أن قيام المجلس لم يكن موجهاً ضد أحد، ولا علاقة له بمواجهة إيران، وإنما أملته ضرورات التوحد والتعاون والتكامل بين أقطار الخليج، كامتداد لسياسات الإمارات الوحدوية في إطار الممكن، منذ مباحثات الاتحاد التساعي فالسباعي.

وعن احتلال الكويت، والرسالة التي نقلها من المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، إلى الشيخ جابر الأحمد الصباح في الطائف، قال ما مفاده، إنه كان واثقاً بأن الكويت ستعود إلى أهلها، وأن الغازي سيندم ويخسر، خصوصاً مع التفاف دول الخليج حول بعضها، وعملهم معاً في كافة المؤسسات الدولية والإنسانية، مضيفاً أنه نقل رسالة إلى الشيخ جابر الأحمد الصباح، مضمونها «سنعمل معك بكل ما نملك من قوة، حتى تعود إلى الكويت، لأن ذلك مسؤوليتنا جميعاً، ولأن التهديد يطالنا كلنا».

أما عن لقاءاته مع المسؤولين الإيرانيين، والمواضيع التي ناقشها معهم، فقد تركزت، على موضوع احتلال الجزر الإماراتية «وهو موضوع شائك، وأجرينا فيه حوارات ومفاوضات ولقاءات، استغرقت آلاف الساعات، لنجد حلاً، فكانت المواقف تتقارب، لكن حينما نصل إلى حل، كانوا يتعمدون الابتعاد».

وتحدث النعيمي أيضاً عن جماعة الإخوان المسلمين، فقال إنهم حركيون ومنافقون، يعملون عكس فطرة الإسلام والمسلمين، مضيفاً أن الإمارات واجهتهم منذ وقت مبكر، وكشفتهم على حقيقتهم.

بعد تركه مسؤولياته الحكومية، اتجه معالي راشد عبدالله النعيمي نحو عالم المال والأعمال، الذي هو اليوم أحد رموزه الوطنية، من خلال «شركة ترانس بيزنس للتجارة والتوزيع».

وإيماناً منه بدور رجل الأعمال في مد يد العون للمرضى، تبرع معاليه بإنشاء «مركز راشد لعلاج السكري والأبحاث»، الذي افتتح عام 2010 في إمارة عجمان، لخدمة مواطنيه، الأمر الذي استحق معه جائزة حمدان للشخصيات المتميزة في المجال الطبي بدولة الإمارات.

وأردف ذلك بتأسيس «مبرة راشد بن عبدالله النعيمي للأعمال الخيرية»، التي صدر مرسوم من صاحب السمو الشيخ حميد بن راشد النعيمي عضو المجلس الأعلى حاكم عجمان، بإشهارها سنة 2012. كما أنه لم ينسَ مصر، البلد الذي تلقى العلم في جامعته، فتبرع لها سنة 2014 بألف سيارة نقل خفيفة، استجابة لدعوة أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسي، للإسهام في توفير فرص العمل وتشغيل الشباب.