كثيراً ما نقرأ أو نشاهد أو نسمع تحليلات عدة لأوضاع جرت أو جارية في بعض البلدان تدور حول «السياسة»، ومدى حضورها أو غيابها في مناحي مجتمعاتها وهياكل مؤسساتها.
وعلى الأرجح، فإن العامل الأكثر تأثيراً على سريان وانتشار هذه التحليلات، هو عدم التحديد الدقيق لمفهوم السياسة المقصود، سواء أكانت حاضرة أم غائبة، ومن ثم يخلص معظمها إلى نتائج لا تبدو دقيقة بالدرجة التي تتناسب مع هذه القضية المهمة المثارة. ولعله من الأفضل الاستفادة في هذا المجال بما خلصت إليه العلوم السياسية، خصوصاً تلك المنصبة على الشؤون الداخلية للدول، وأبرزها علم السياسة المقارن.
فتحديد معنى السياسة حسب هذا العلم، هو الذي سيدلنا على حقيقة الغياب وحجمه في كل مساحة من مساحات الدولة والمجتمع، في أي بلد من البلدان. فقد يكون المقصود بالسياسة، الممارسات الحزبية المنتظمة والواضحة في المجتمع بمختلف مناطقه وفئاته، بما في هذا وجود فعال لعضوية الأحزاب من مواطني أي دولة.
وقد يكون مقصوداً بالسياسة أن يكون لدى الحكم ملامح واضحة لأهدافه وإجراءاته وتحركاته، وأن يعطي هذا اتجاهاً ثابتاً ومتماسكاً له في معالجة مختلف القضايا الداخلية والخارجية.
كذلك فقد يكون مقصوداً بالسياسة، أن يكون وراء الحكم القائم كتلة سياسية، حزباً أو قوة سياسية أو أكثر، تطرح على الجمهور رؤيتها دون غموض ولا مواربة، وتمارس دعمها المعلن والنشط للحكم، بحيث يقرر الناس موقفهم منه وفقاً لهذا.
كما قد يكون مقصوداً بالسياسة هو اهتمام عموم الناس بالشؤون العامة، ومتابعتها وجعلها أبرز قضايا التداول والحوار بينهم، وانعكاس هذا على مشاركتهم فيها بجميع الصور التي يحددها علم السياسة المقارن، بدءاً من قراءة الصحف ومتابعة وسائل الإعلام، ومروراً بالمشاركة الحزبية والانتخابية ترشحاً وانتخاباً، وانتهاءً بممارسة صور الاحتجاج المختلفة التي تقرها وتنظمها القوانين القائمة في الدولة المقصودة.
وأخيراً، فقد يكون مقصوداً بالسياسة تقدم قضايا الشأن العام، سياسية أم اقتصادية أم أمنية أم غيرها، على رأس أولويات الحوار العام في البلاد، والذي يدار عبر وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، التقليدية والجديدة.
هذه المعاني المتعددة والمختلفة للسياسة الداخلية بحسب علم السياسة المقارن المختص بدراستها، تجعل من الحسم بغيابها أو حضورها في أحد البلدان صحيحاً إذا ما اقتصر تعريفها على أحد تلك المعاني السابقة دون غيره، أما إذا كان المقصود بالحضور أو الغياب للسياسة أن يشمل تعريفها كل تلك المعاني، فلا شك أن وجودها يتراوح في مختلف البلدان بدرجات متنوعة، ويضحى القول بغيابها التام عن بعضها، حكماً مطلقاً تنقصه الدقة والواقعية.
أما إذا كان القول بغياب «السياسة» التام في بعض التحليلات في بعض البلدان، هو مبالغة مقصودة يرمي أصحابها إلى تحقيق الوجود الأمثل لكل معانيها السابقة في مناحي المجتمع والدولة والنخبة، فهو اجتهاد في غير محله حتى لو افترضنا حسن النوايا من ورائه.
الحقيقة على الأرجح هي أن معظم معاني السياسة السابق ذكرها على الصعيد الداخلي، تتواجد وتتجاور معاً بصورة تبدو مثالية، في البلدان التي قطعت أشواطاً طويلة قارب بعضها مئات السنين، وهي في غالبيتها الساحقة من تلك التي تنتمي للمعسكر الغربي.
أما في بقية بلدان العالم من شرقه إلى غربه وبمختلف ثقافاته، فإن هذا الحضور الواسع لكل تلك المعاني المذكورة للسياسة، يصعب العثور عليه بالانتشار والرسوخ ذاتهما الموجودين في تلك المجتمعات الغربية.
فتجارب الغالبية الساحقة من هذه الدول غير الغربية في بناء نظمها السياسية الداخلية تأتي من أحد مصدرين، أو الاثنين معاً، فهي إما بلدان كانت تحت الاحتلال لعشرات وأحياناً لمئات السنين من دول أوروبا الغربية، وبدأت ببناء نظمها الداخلية المستقلة قبل عشرات السنين فقط، أو أنها لم يجر احتلالها، ولكنها اختارت لسنوات طويلة النظم السياسية والاقتصادية لدولها على غرار النموذج الاشتراكي أو الشيوعي، ومعها دول كانت محتلة أيضاً، والذي لا يسمح بحضور السياسة بكل معانيها السابقة إلا في أضيق الحدود.
من هنا، فإن الواضح اليوم وفقاً لكل ما سبق أن مستوى حضور السياسة في البلدان غير الغربية يبدو غير مرضٍ لعديد من الدارسين والمحللين، وهو الوضع الذي يظهر أنه متأثر بشدة بعوامل هيكلية بهذه البلدان، تتعلق بالثقافة السياسية وبالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها، والتي لا تشجع كثيراً على الانخراط بمختلف صوره في «السياسة».
ولا يعد هذا الأمر قدراً محتوماً، فكل هذه العوامل قابلة للتغيير عبر سياسات وإجراءات قد تأخذ بعضاً من الوقت، وهو ما تم بالفعل في عدد من البلدان غير الغربية، وهو ما يؤدي بدوره لفتح الأبواب أمام حضور أكثف وأوسع للسياسة في مجتمعاتها ونظم حكمها.