محمد بن راشد.. صقر الرؤى البعيدة

تحت وسم «علّمتني الحياة» نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، على حسابه في «إنستغرام» قصة قصيرة استعاد فيها صدى حادثة بعيدة حدثت قبل حوالي أربعين عاماً حين كان يحضر اجتماعاً لدول مجلس التعاون الخليجي، وكيف أنه شعر بالملل من كثرة الحديث السياسي الذي يصف الواقع ولا يكاد يُغيّره، فما كان من صاحب السمو إلا أن طرح فكرة أراد بها تحويل اتجاه الحديث نحو شيءٍ عملي تطبيقي تكون آثاره ملموسة وفائدته متحققة، فاقترح تطوير مدن الخليج لكي تكون وجهات سياحية عالمية تستقطب ملايين الزوار، وتحتفظ بالملايين من أبنائها الذين ينفقون المليارات في موسم السياحة الخارجية، وأن تكون البداية من مدينة دبي.

وبريشة الفنان البارع يصف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ملامح الدهشة التي سيطرت على وجوه الحاضرين من وقع هذا الاقتراح الجريء الغريب، وكيف ساد الصمت والوجوم قبل أن يكسر حاجز الصمت وزير خارجية إحدى الدول الخليجية الشقيقة ممن كان أكبر سناً من صاحب السمو فقال: وماذا سيجد السياح في دبي ومدننا الخليجية؟ الصحراء! الرمال! الحرارة والرطوبة! ثم يصف صاحب السمو ردة فعل الوزراء الذين بادروا إلى إطلاق الضحكات تأكيداً على صحة اعتراض وزير الخارجية الآنف الذكر الذي حاول إصلاح الموقف ومنحه طابع الجدية النابعة من الخبرة حين خاطب صاحب السمو قائلاً: «ثمّ يا شيخ محمد، أين الإرث الثقافي والحضاري والتاريخ الإنساني في دبي حتى يزورها الناس؟».

كان هذا السؤال كفيلاً بإحباط كل الرؤى والمشاعر التوّاقة إلى استنقاذ سياحة الخليج، واجتثاث الفكرة من أساسها، لكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وبما ورث عن والده طيب الذكرى الشيخ راشد بن سعيد رحمه الله، وبما تلقاه مباشرة عن فارس الإمارات طيب الذكرى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وبما امتلك من خبرة ذاتية عميقة من حواضر الشرق والغرب ومدرسة الحياة التي يعتد بها، لم يجادل أحداً، ووضع نُصب عينيه أن يكون الجواب هو العمل، وهو المنهج الذي اختطه منذ انخرط مع رجال الدولة المؤسسين في بناء الدولة، فهو رجل قول وعمل وليس ممن يجلس ينتظر ضربات الحظوظ، ومنجزاته الكبرى هي خير شاهد على رسوخ هذه النظرة في فكره الثاقب بل لقد أصبح صاحب السمو مدرسة تستلهم منها الأجيال أعمق الرؤى وأفضل الخبرات، وحين يتحدث عن تلازم التفكير والتخطيط والتنفيذ تجده يتدفق مثل النهر الهادر بسبب عمق الحضور لهذا المنهج في عقله وقلبه، فهو لا ينتظر النظريات لكي ينفذها بل يبادر لإنشاء المتميز من قلب المستحيل، ومن يطالع سيرته الذاتية «قصتي» يلحظ حجم الدروس والخبرات والجرعات المدروسة التي تلقاها في روعة شبابه من والديه وشيوخه قبل أن يشد الرحال إلى الغرب ويتلقى تدريباً شاقاً داخل المؤسسة العسكرية جعل منه رجلاً يعشق التحديات ويراها جوهراً حقيقياً للحياة .

وتعقيباً على الحادثة السابقة، واستلهاماً للدرس المستفاد منها نشر صاحب السمو تقريراً أصدرته منظمة السياحة العالمية التابع للأمم المتحدة جاء فيه أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي الدولة الرابعة عالمياً في استقطاب السياحة بحجم إنفاق وصل إلى 244 مليار درهم في العام الماضي متفوقة بذلك على الكثير من الدول العريقة في مجال السياحة مثل فرنسا وإيطاليا وتركيا وألمانيا، لتكون هذه الحادثة عبرة عميقة المغزى لقوة الإرادة الإنسانية، وأن من أراد شيئاً وصل إليه، وبلمسة إنسانية لطيفة عقب صاحب السمو على هذا الموقف كله قديمه وحديثه بقوله: «قرأتُ التقرير وتذكرتُ صديقي وزير الخارجية».

محمد بن راشد قيمة فريدة في تاريخ الإمارات، وقامة عالية بين القادة، وضمير متفتح بالعطاء والأمل، وصقر عميق النظر يرقب الآفاق البعيدة، وشاعر يكتب مجد الوطن بحروف الحب والبذل والإنجاز، وإنسان يرعى كل ملامح الإنسانية بين بني البشر، ومثقف يعرف أن القيادة ليست مجرد السلطة بل هي خلق حالة من الوعي بقيمة النجاح والتفوق والريادة، غرس في وجدان شعبه أن مكانهم الحقيقي الذي يليق بهم هو تحت الشمس الساطعة وليس في الزوايا القاتمة، فانطلقوا معه مثل الصقور يترنمون بمجد الوطن وينشدون معه نشيد الحياة ويرفعون اللواء بسواعدهم القوية وقلوبهم التي تفيض للوطن حباً وولاء، يحدوهم هذا القائد الجسور بشجاعة قلبه وبشاشة وجهه وكرم أخلاقه حتى أصبحت قصة الإمارات نموذجاً يحتذى به بين الأمم والشعوب.