شهدنا في العراق على مدى الأعوام العشرين المنصرمة، العديد من «الفواجع»، لم تقف عند تفجير مرقد العسكريين، ولا عند غرقى جسر الأئمة، ولا عند مجزرة كنيسة سيدة النجاة، ولا عند سقوط ثلث العراق تحت سيطرة تنظيم داعش.

ولا عند ضحايا مجزرة سبايكر، ولا عند مصير آلاف المغيبين قسراً، ولا عند تفجيرات الكرادة، ولا عند حادثة العبارة في الموصل، ولا... ولا...، وجاءت «حريق» الحمدانية في السابع والعشرين من سبتمبر المنصرم، ليضيف لأوجاعنا وجعاً جديداً، تضامن فيه عموم العراقيين مع عوائل الضحايا، الذين بلغ عددهم 119 قتيلاً، وعشرات المصابين بالحروق.

أعاد هذا «الحريق» إلى الأذهان، جميع الفواجع السابقة، وسلط الأضواء من جديد وبقوة، على العامل المشترك لكل نكبات العراق على مدى العشرين سنة الماضية، وهو الفساد المستشري في معظم أجهزة الدولة، فهذا الفساد يعمل على تقويض الثقة بالمؤسسات القائمة، وبقدراتها على مواجهات التحديات، ويعيق تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية، ويتسبب في حصد الأرواح، ويستنزف المال العام، ويزيد من تفاقم الفقر والانقسام الاجتماعي.

تُقدم منظمة الشفافية الدولية تعريفاً موجزاً للفساد، بأنه «إساءة استخدام السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب خاصة». السلطة الموكلة قد تكون فرداً يشغل موقعاً هاماً في إحدى مؤسسات الدولة، أو جهة ما سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية، أو أية جهة محلية أو إقليمية أو دولية، تتمكن من خلال أنشطتها التداخل مع سلطة إدارة المال العام.

يمكن أن نجد الفساد في أي مكان حولنا في قطاع الأعمال، وفي القطاعات الحكومية الخدمية، وفي وسائل الإعلام، وفي مؤسسات المجتمع المدني، وفي البني التحتية للثقافة والفنون والرياضة، ويمكن أن يكون الفاسد أي شخص، سواء كان سياسياً أو مسؤولاً حكومياً أو موظفاً عمومياً، أو رجل أعمال أو فرداً من الجمهور.

الحوادث التي ترتبط بالفساد، لا حدود لتنوعها، إلا أن أكثرها شيوعاً، هي «الحرائق» التي تحدث، إما تعمداً، أو بسبب الإهمال والفساد.

فوفق إحصائية صادرة عن مديرية الدفاع المدني التابعة لوزارة الداخلية العراقية عن الحرائق في جميع أنحاء العراق، عدا إقليم كردستان، نُشرت في الخامس من يوليو 2023، حصل في عام 2022، أكثر من (32) ألف حريق، وحصل منذ بداية عام 2023 وحتى نهاية أغسطس منه، قرابة (19) ألف حريق.

وقد شملت الإحصائية الحرائق التي اندلعت داخل مبانٍ حكومية وتجارية، ومصانع ومستشفيات ومعامل ومخازن، ودور سكنية وأراض زراعية وحقول وعجلات وغيرها. غالباً ما يعقب مثل هذه الحوادث إجراءات حكومية، تشمل إجراء تحقيقات، وفرض عقوبات إدارية، وإحالات للمحاكم المختصة.

وإصدار أحكام قضائية، لكنها لم تسفر حتى الآن عن وضع حد لتلك المآسي، التي باتت تفتك بالعراقيين، وذلك لعدم المساس بأسبابها وبمسببيها الحقيقيين، ما يطرح تساؤلاً مشروعاً عن جدوى كل هذه الإجراءات، في الوقت الذي كان يمكن تجنب وقوع هذه الحوادث أصلاً، عن طريق التشديد بتطبيق القوانين والتعليمات الخاصة بمنح الترخيصات، والالتزام بمبادئ وتعليمات الدفاع المدني.

أصبحت الحرائق تهديداً مزمناً لحياة العراقيين في كل مكان، فهي تكاد أن تكون مشهداً يومياً، فبعد يومين من حريق الحمدانية، أعلنت مديرية الدفاع المدني عن رصد (7) آلاف مشروع مخالف لشروط السلامة، من بينها قاعات للمناسبات وفنادق ومطاعم. لسنا بصدد الدخول في تفاصيل ذلك.

إلا أننا نقول إن أبرز من صنع هذا العدد الكبير من مكامن الحرائق، هي أجهزة الدولة نفسها، التي تغض الطرف عن المخالفات لهذا السبب أو ذاك في ما يتعلق باستيفاء شروط منح الترخيصات في البناء، وفي نوعية المواد المستعملة.

وعدم الجدية في الرقابة في مراحل التنفيذ، ما يعد مخالفات صريحة لنصوص القانون الخاص بالدفاع المدني رقم (44) لسنة 2013. جميع الحكومات التي تعاقبت في العراق، وضعت في أولويات برامجها مكافحة الفساد، وبالغت في تقديم الوعود للقضاء عليه وإنهائه.

ولكننا لم نرَ إلا عكس ذلك، ليس لأن هذه الحكومات هي الأخرى غارقة فيه، بل لأنه أقوى من قدراتها على مواجهته. فقد ثبت أن مقاربته بالطرائق التي استخدمت حتى الآن، لم تكن مجدية، فهناك فساد مالي، وفساد إداري، وفساد أخلاقي، ولكن الجوهر هو الفساد السياسي المسكوت عنه، الذي تفرضه وتدير محاوره «الدولة العميقة»، التي تقف الميليشيات المسلحة حامية لها.