عرف العالم القديم في عصور الإمبراطوريات الكبرى ظاهرة «الدولة» بالمعاني والخواص التي أضحت تحملها بحسب التطورات الحديثة في العالم وفي علوم السياسة التي تتعامل وتدور في هذه الظاهرة البشرية الأهم فلا شك في وجود دول فرعونية وأخرى فارسية وغيرهما رومانية وإسلامية وغيرها في العصور القديمة والوسيطة وما قبل الحديثة، ولا شك أيضاً في أنها جميعاً حملت خواص وسمات ما بات يسمى في العصور الحديثة «الدولة»، من دون أن تحمل هذا الاسم.
وقد استقرت معظم الدراسات السياسية التاريخية على أن المفهوم الحديث والساري حتى اليوم للدولة هو هذا الذي نتج عن واحدة من المعاهدات المركزية المؤسسة للعالم السياسي الحديث والقائم حتى اللحظة، وهي معاهدة ويستفاليا، التي عقدت في سنة 1648.
وهذه المعاهدة، وهي في الحقيقة معاهدتان، عقدتا في ألمانيا لتنهيا حرب الثلاثين عاماً التي دارت في داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وحرب الثمانين عاماً التي دارت بين إسبانيا ومملكة هولندا في ذلك الوقت.
وتعود أهمية هذه المعاهدة إلى أنها من ناحية أنهت الحروب الدينية التي اجتاحت أوروبا قبلها بقرون، وأنها من ناحية ثانية أول معاهدة سياسية – دبلوماسية في العصر الحديث، أرست قواعد النظام الأوروبي وبعده النظام الدولي، والقائمة على مبدأ الدولة وسيادتها المطلقة، وهو ما أضحى اعترافاً كاملاً بالدولة وحدةً أساسية ووحيدة للنظام الأوروبي ساعتها، ثم الدولي بعدها.
أما تعريف الدولة، فقد ظهر منذ تلك السنوات مئات التعريفات لها، إلا أن ما يجمع بينها عدة مشتركات باتت تمثل طبيعة هذا الكيان الأهم المسمى الدولة في عالمنا المعاصر. وقد أجمع فقهاء ومفكرو العلوم السياسية على أن الدولة لا بد من أن تجتمع لها معاً عدة عناصر: أن تشمل وجود مجموعة من الناس، هم الشعب، يعيشون بصفة دائمة على مساحة مستقرة من الأرض، هي الوطن، ويخضعون لسلطة مركزية، أو حكومة واحدة.
وأضيف إلى هذه العناصر الثلاثة المركزية للدولة في الفكر السياسي، عنصران آخران، الأول أن هذه السلطة المركزية، أو الحكومة، هي وحدها التي تمتلك السلطة الإلزامية على شعبها وتحتكر من دون غيرها ممارسة الإكراه المشروع، والثاني أن تمتلك هذه الحكومة السيادة الكاملة على شعبها وأرضها في مواجهة سيادات الدول الأخرى. ومع تطور النظام العالمي في القرن العشرين، أضاف الباحثون السياسيون لتعريف الدولة أن تحصل على الاعتراف القانوني من الدول الأخرى ذات السيادة ومن المنظمات الدولية متعددة الأطراف.
وهكذا، ومع مرور مئات السنين على الإقرار بمفهوم الدولة الحديثة، وبعد آلاف السنين من وجودها الواقعي، يبدو واضحاً من تطور وجود الدولة في قرن كامل يبدأ من نهاية الحرب العالمية الأولى، أنها باتت المقصد الأول والرئيس لكل التجمعات البشرية، المسماة الشعوب في المصطلحات الحديثة فبعد هذه الحرب بعامين قامت «عصبة الأمم» أولَ تجمع لدول العالم يقوم على مبادئ معاهدة ويستفاليا، وضمت 42 دولة فقط ووصلت قبل انهيار المنظمة مع بدء الحرب العالمية الثانية في سنة 1939، إلى نحو خمسين دولة. ولما أُسّست منظمة الأمم المتحدة في سنة 1945 بعد نهاية هذه الحرب الأخيرة، بدأت عضويتها بـ51 دولة، جلها من الدول المنتصرة في الحرب.
وبعد قرابة ثمانين عاماً على نشأة المنظمة الدولية، أصبح اليوم عدد أعضائها 193 دولة، إضافة إلى دولتين مراقبتين وهما الفاتيكان وفلسطين. ولا شك في أن عدداً من العوامل قد أدى دوره في زيادة عدد دول العالم، ومنها الحرب العالمية الثانية نفسها التي أنهت دولاً وأنشأت دولاً أخرى، ومنها الحركة الواسعة لإنهاء الاستعمار الأوروبي بعد هذه الحرب واستقلال الدول المستعمرة السابقة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وكذلك نتيجة الاندماج أو التفتت لبعض الدول، مثلما حدث مع الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا.
إلا أن المعنى الأساسي لهذه الزيادة اللافتة في عدد دول العالم ليس فقط هذه العوامل، ولكن أيضاً هذا الإقبال والإصرار من شعوب العالم على تحويل وجودها على أقاليمها وأراضيها، إلى هذا الكيان التاريخي الذي يحفظ لها وجودها الداخلي وينميه وينظم علاقاتها بالعالم الخارجي، أي «الدولة».
أصبح هذا دليلاً أكيداً على أن «الدولة» المقصد الرئيس للبشرية في القرن المنصرم كله، وأضحت الكيان الذي تحلم بوجوده مكتملاً وممارساً لكل أدواره، الغالبية الساحقة من المليارات الثمانية الذين يعمرون الكرة الأرضية اليوم.