هل الساكت عن الحق شيطان أخرس؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروي لي صديق أنه حضر اجتماع عمل صاخباً، مع مديره، بحضور الرئيس التنفيذي. كان الحضور رؤساء جميع القطاعات. وبينما هم يصغون إلى كلام الرئيس بادر صديقي بذكر ملاحظة جوهرية عن خطأ مالي جسيم ينبغي إصلاحه. هنا احمر وجه مديره، بعدما لاحظ أن الرئيس التنفيذي لم يعجبه تعليق صاحبنا الذي سوف يعطل توجه الرئيس الذي لا يتقبل عادة الآراء الأخرى بصدر رحب.

وبعد انتهاء الاجتماع وخروجهم، «مسك» المدير صديقنا الذي يبدو أنه لا يخاف في الله لومة لائم فوبخه وقال له حرفياً: هل طلب أحد منك الكلام؟ فقال: لا. إذن لماذا علقت؟ فأجاب: هذه أمانة ومن واجبي أن أنوه عن خطأ إذا لم ينتبه إليه أحد. فقال المدير، إن هذا الرئيس كما تعلم لا يتقبل الآخر، وحتى لو رأيته يصطدم بالجدار فدعه وشأنه!

هذا الحوار، يلخص لنا فكرة الأمانة وتداعيات الرأي الواحد الذي لا يتقبل التعددية ولا تصحيح الخطأ. فهناك من تقوده أفعاله نحو حتفه، فلا يتراجع حتى لا يجرح كبرياءه.

هؤلاء تجسيد عملي لفكرة المكابرة وهي من أخطر أمراض القياديين والبشر عموماً. وقد خسرت بلدان ومؤسسات ملايين ومليارات بسبب تعنت البعض وتشبثهم بآرائهم.

هناك من يضطر للسكوت عن الحق لأسباب عديدة، منها أن اللوائح لا تسمح له بتجاوز التراتبية الإدارية، فتنتهي مهمته بإخبار المسؤول المباشر. ومنهم من يسكت لأنّ أحداً لا يتقبل تغيير سلوكه، بل ويعتبره تدخلاً فيما لا يعنيه. فهناك بالفعل من هو منشغل بسلوكيات الناس، عن الاعتناء بتهذيب سلوكياته. يريد أن يقيّم هذا، وينصح ذاك، وينتقد هذا، ولسان حاله المثل الشعبي: «باب النجار مخلع».

وفي بيئات العمل، ليس كل ما يعرف يقال. لا أتكلم هنا عن السرقات أو خيانة الأمانة بل ما دونها. ففي كثير من الأحيان يشعر المرء بالحرج الإداري، في التعليق على أداء إدارة أخرى أو سلوكيات مديرها مهما كان ذلك الكلام وجيهاً وفي محله. ذلك أن بيئات العمل هي ميادين تنافس، ليس بالنتائج بل بالسلوكيات التنافسية. فما هو مذموم مهنياً وأخلاقياً، يمكن أن نعكسه في سلوكياتنا، وبذلك تصل الرسالة، من دون الحاجة للغمز واللمز. فالناس تدرك جيداً كل ما يحدث على خشبة مسرح بيئة العمل، ولذلك يتظاهر كثيرون بجهلهم عن مجريات الأمور، لكنهم يدركون كل صغيرة وكبيرة تحدث.

أحياناً يضطر المرء للسكوت، حتى يحصل على نطاق صلاحيات أكبر، وهذا ما يفسر كيف يقلب مسؤول جديد الأمور رأساً على عقب فور توليه زمام مهام إدارية جديدة. ولهذا نجد أن سكوته كان هدوءَ ما قبل العاصفة. وهو تكتيك مشروع لتأجيل ردود أفعالنا للوقت المناسب. ويضطر البعض للسكوت، لأن كل محاولاته السابقة قد باءت بالفشل. ففي بعض المؤسسات تساعد بيئتها أو ثقافتها السائدة على التطور السريع لأن أي محاولة تحسين تثمر في تقييم الأداء في نهاية العام مادياً ومعنوياً. في حين تراوح بيئات عمل أخرى في مكانها، لأنها طاردة للكفاءات وتنفر من التغيير أياً كانت وجاهته.

ولأن بيئات العمل ميادين تنافس، فإن الحكمة تقتضي أن يتفادى المسؤولون كل ما يزعجهم أو يزعج الإدارة العليا، فيصبحون خير مثال لما كان يسبب إزعاج الجميع. باختصار هي محاولة للاستفادة من أخطاء الآخرين، بتحويلها إلى نقاط قوتنا. ليست أنانية بل هي مقتضيات التنافس الشريف. فليس كل ساكت شيطاناً أخرس.

Email