لم يصنع جيلنا العالم الذي نعيش فيه بل تفتح وعيه ليجده على الحال الذي هو عليه، شعوب تفصل بعضها عن بعض موانع وحدود صنعتها أحداث لم يكن له يد في صنعها أو حدوثها ولا في المسارات التي اتخذتها. شعوب تحكم العلاقات بينها مصالح وصداقات أو قطيعة وعداوات، تركات أورثها الأسبقون تختلط لدى شعوبها مشاعر الحب أو البغض أو مشاعر الفخر والاعتزاز أو الغبن والانكسار فالعديد من مناطق العالم التي أصبحت دولاً في ما بعد تعاقبت على حكمها وفرض سيطرتها عليها شعوب عديدة كل منها ترك بعض الآثار فيها وتلبسه الحنين إليها منذ التخلي عنها كرهاً.

ورثنا عالماً لا يسعنا إصلاحه على الرغم من كثرة المساعي التي بذلت والمواثيق الدولية التي صدرت وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في سنة 1949. لم نجد أمامنا سوى خيار التأقلم مع هذا الميراث بكل عيوبه وأوزاره وفخاخه المهيأة للانفجار بفعل السرديات التي ورثتها الشعوب والتي وثقت ضغائن التاريخ، فعالم اليوم الذي نعيشه رسم معالمه من سبقنا على مر التاريخ عبر حروب عرقية أو دينية أو طائفية أو قبلية أو مناطقية أو شخصية.

يقول المؤرخ الإنجليزي أدوارد جيبون (ت 1794) إن التاريخ «سجل لحماقات وجرائم وكوارث البشرية». مقولة بليغة يشاركه فيها الفيلسوف الألماني شوبنهاور (ت 1860) فهي ليست ببعيدة عن الحقيقة حين نتأمل التاريخ السياسي للبشرية سابقاً ولاحقاً وليس تاريخ الآداب والفنون.

منذ أعلنت الحكومة البريطانية وعد بلفور في الحرب العالمية الأولى لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين أصبحت هذه القضية المصدر الرئيس لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ومحوراً للحروب التي كان آخرها ما نحن في صدد التطرق إليه.

فمنذ وقعت السلطة الفلسطينية اتفاقات أوسلو مع إسرائيل في سنة 1993 والتزمت التفاوض على إنهاء الصراع على أساس حل الدولتين اتخذت حركة حماس موقف المعارضة الشديدة للاتفاق وسعت لعرقلته بشتى الوسائل وتعاظمت خلافاتها مع السلطة ممثلة في تنظيم فتح والتي أطيح بها في يونيو من سنة 2007 لتفرض حماس سيطرتها الكاملة على القطاع الذي أصبح معزولاً عن بقية العالم منذ ذلك الحين فهو يخضع لحصار صارم جواً وبحراً وبراً، إذ ليس فيه مطار وكل المعابر البرية منه وإليه مغلقة، ويتعرض لضربات القوات الإسرائيلية منذ انسحابها منه في سنة 2005.

الأمم المتحدة ليست غافلة عما تعانيه هذه المنطقة من صراعات فهي تعمل من جانبها على التحري عن ذلك، وتوصلت لجنة التحقيق الدولية المستقلّة التابعة لها والمعنية بالأرض الفلسطينية المحتلّة، ومن ذلك القدس الشرقية إلى حقيقة مفادها أن «استمرار الاحتلال الإسرائيلي والتمييز ضد الفلسطينيين هما السببان الجذريان الكامنان وراء التوترات المتكررة وعدم الاستقرار وإطالة أمد النزاع في المنطقة»، وذلك وفق التقرير الصادر عن هذه اللجنة في السابع من يوليو من سنة 2022.

ما حدث في السابع من أكتوبر المنصرم في قطاع غزه وما تبعه من أحداث وما سيترتب على كل ذلك لاحقاً ليس وليد ساعته بل هو أحد تداعيات عيوب النظام العالمي الذي لا يزال يحكم بشريعة الغاب.

ردود الفعل الإسرائيلية على ما حدث تجاوزت كثيراً ما يمكن أن يدخل تحت باب الدفاع عن النفس، ما يطرح أسئلة جادة عن مستقبل «الأمن والأمان»، أبرز مقومات الحياة في دول العالم أجمع والتي من مهام حكوماتها تحقيق ذلك عبر ما تنتهجه من سياسات خارجية على المستويين الإقليمي والدولي.

وتؤدي الدبلوماسية المرنة بعيداً عن التشنج والعدوانية الدور الرئيس في مقاربة أي مشكلة، خاصة مع دول الجوار بما تتطلبه حقوق الجيرة وليس بالضرورة وفق ما تفرضه قوانين أو قرارات المنظمات الدولية التي قد لا تكون منصفة في بعض الأحيان، وبما تنتهجه على المستوى المحلي من ممارسات تتبنى فيها قيم المواطنة التي تضمن الحقوق في التمتع بميزة تكافؤ الفرص والمساواة مع الآخرين.

الحروب أو خطر وقوعها وحالة الترقب والخوف من توسعها هما ما يكمن خلف انهيار المجتمعات، فمع اندلاعها وفي أجواء التحضير لها أو أجواء اتقاء وقوعها تتراجع إلى درجة مريعة قيم الأخلاق والإنسانية والعدالة، الأعمدة الأساسية في ديمومة المجتمعات، وهو ما نشهده بكل وضوح في قطاع غزة.