إذا كانت العولمة بمجالاتها المختلفة اقتصادياً ومعرفياً وعلمياً وثقافياً تضع العالم أمام خيارين لا ثالث لهما إما الاستجابة لهذا الانفتاح الفائق، والتشارك العالمي والإنساني في صناعة المسار الحضاري وإما العزلة عن العالم وعن تحولات العصر. فعلى الدول التي تراهن على وجودها في الحاضر والمستقبل، أن تختبر خيارتها، الوطنية والإنسانية أمام هذا التحدي بفعل وفاعلية الوعي للذات والعالم.

ولأن طبيعة الحياة تستوجب الارتهان إلى الخيار الأول، فقد تعددت طبيعة هذه الاستجابة بين دولة وأخرى وبين مجتمع وآخر، وذلك عبر تعدد الفهم لمفهوم العولمة وأطروحاتها المختلفة التي تضع الهويات الوطنية أمام تحديات الوجود في عالم منفتح على الثقافات والحضارات.

وهنا يطرح السؤال: كيف يمكن للهويات الوطنية أن تحافظ على كينونتها ووجودها وتاريخها وإرثها، وبالوقت ذاته تنفتح على العالم وثقافاته المتعددة دون أن تفقد خصوصيتها وهويتها؟

ولا شك إن الإجابة عن هذا السؤال، تنهض من العلاقة الجدلية بين الذات والآخر، بين الوطني والعالمي، بين الكينونة والصيرورة، بين الماضي والحاضر والمستقبل.

ولعل هذا ما تنبهت إليه دولة الإمارات العربية المتحدة في طبيعة فهمها ووعيها لهذا التحول الحضاري، واستيعابها لأطروحات العولمة، وذلك عبر ترسيخ الهوية الوطنية الإماراتية ومنظومتها القيمية المتأصلة في كينونتها تاريخياً وثقافياً واجتماعياً، مرتهنة إلى ذلك النسيج الذي يشد أواصر الماضي الأصيل بالحاضر والمستقبل، دون أن تفقد رهاناتها في الانفتاح على العالم والاستجابة إلى كل الأطروحات الحضارية في المجتمع الإنساني.

ويأتي ذلك من خلال استيعابها للمفاهيم الإيجابية للعولمة لتقدم «المثال الأفضل للعولمة» بكل معطياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، وهذا لأنها ارتهنت بكل مفردات نهضتها الحضارية وتشاركها الإنساني اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ومعرفياً، إلى المعيار القيمي والأخلاقي، والإنساني.

فمن يقرأ التجربة الإماراتية التي كانت وراء هذه النهضة الفائقة يدرك من البداية تلك الفلسفة العميقة التي كانت تقف وراء هذا التحول الحضاري، والتي تنهض من استراتيجية تختبر المستقبل في مختبر الماضي، وتزن التراث بميزان المعاصرة، وتحصن انفتاحها المعرفي والثقافي بمنظومة من القيم والمثل العليا، التي تنهض على قيم التعايش والتسامح والتحاور والتعارف والتبادل المعرفي والاقتصادي ما جعلها تقدم نموذجاً إماراتياً للعولمة، ومثالاً معيارياً لمفهوم العولمة الذي ينهض من مفهوم العالمية والتقارب الحضاري والمعرفي بين البشر، من أجل مجتمع إنساني أكثر تفاهماً وأكثر تسامحاً وأكثر تقارباً.

وأكثر انفتاحاً وهذا ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بقوله «التعاون البنّاء هو المحرك الحقيقي لإحداث التغيير الإيجابي.. والعمل الفردي يظل قاصراً في عالم يتطور بشكل متسارع».

لذلك حسمت دولة الإمارات أمرها واختارت العمل مع شركائها، لتعزيز جاهزية العالم لبناء مستقبل أفضل لما فيه خير الأجيال القادمة. بهذا المعنى تمكنت دولة الإمارات منذ قيام الاتحاد من تحقيق نقلات فائقة على كل المستويات دون أن تفقد رهاناتها على هويتها الوطنية وتراثها وقيمها التي رسخها الآباء المؤسسون في الذاكرة الفردية والمجتمعية، كما هي راسخة في ذاكرة المكان والزمان.

وذلك عبر هذا الانسجام بين هويتها الوطنية ومفرداتها وبين الهوية الإنسانية وأطروحاتها، وهذا ما أكدته مبادئ الخمسين التي ترسم المسار الاستراتيجي لدولة الإمارات خلال الخمسين سنة المقبلة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتنموياً وثقافياً، بالتأكيد على ترسيخ قيم الهوية الوطنية الإماراتية وانسجامها مع مبدأ ترسيخ الأخوة الإنسانية واحترام التعدد الثقافي في مجتمعها المحلي والمجتمع الإنساني.

ما جعل العولمة في المفهوم الإماراتي مفهوماً إيجابياً، وفلسفة حيادية، وسبيلاً للحوار والتجاذب بين الحضارات والثقافات برهان علاقاتها وشراكاتها الاقتصادية والثقافية والعلمية على منظومة القيم الأخلاقية التي تضع الإنسان في مقدمة أهدافها، ما يجعلها فضاءً إنسانياً للسعادة والتعايش والتسامح والسلام.

ومن هنا يمكن القول إن آليات الحفاظ على الهوية الوطنية الإماراتية أمام تحديات العولمة هي آليات تشترك فيها كل المؤسسات والهيئات العامة والخاصة، وعلى كل المستويات عبر شراكات فاعلة في المحافظة على التراث الثقافي والمعرفي والقيمي الإماراتي الذي يحصن الهوية الوطنية الإماراتية، ويوسع خياراتها التواصلية مع العالم.

ولعل هذا ما تقوم به مؤسسة وطني الإمارات، عبر ترسيخها للهوية الوطنية الإماراتية بجهودها المختلفة وبرامجها ومبادراتها، التي ترسخ الوعي الوطني والمجتمعي، وتعزز قيم الانتماء والولاء، والمواطنة الصالحة لدى جيل الشباب، كبرنامج «سفراء الهوية الوطنية الإماراتية» ومبادرة «حماة العلم» وغيرها الكثير التي تضع نصب رؤيتها تعزيز الهوية الوطنية الإماراتية.

وتعزيز الوعي الوطني والمجتمعي، وتنمية مهارات القيادة والتواصل والعمل الجماعي لدى الشباب، ما يجعل الأجيال القادمة قادرة على تحديات العولمة بكل مجالاتها، لأنها محصنة بهويتها وعمق انتمائها الوطني وولائها للوطن وقيادته الرشيدة، التي ترسم خارطة المستقبل بعقول الشباب ورؤيتهم التي تستشرف المستقبل.

بهذه الرؤية الواضحة، والفلسفة العميقة، والإرث الأصيل، والانسجام مع التحولات الحضارية والإنسانية استطاعت دولة الإمارات أن تحفظ أصالة هويتها الوطنية وأصالة انتمائها إلى العالم، «فمن يصنع المستقبل لا يخاف من المستقبل» هكذا استجابت دولة الإمارات للعولمة كرؤية مفتوحة على المستقبل.