نحو «معادلة توظيف» منصفة

ما زالت هناك معضلة في آلية قبول الخريجين الجدد في الوظائف. فلأننا نعيش في منطقة نخشى فيها من تدخل المحسوبيات في توظيف شبابنا صرنا نلجأ إلى «اختبارات» في تقييمهم. في السابق عندما كان عدد الخريجين محدوداً لم تكن هناك إشكالية، ولما صارت أفواج الخريجين بعشرات الآلاف أضحت البلدان أمام حاجة ملحة «لفلترتهم» لينالوا «شرف القبول» في المؤسسات الحكومية أو الخاصة العملاقة!

هناك جهات تضع وزناً نسبياً لمعادلة القبول، مثل أن تترك 10 في المائة لنتيجة تقييم المقابلة الشخصية، و20 في المائة للمعدل الدراسي المرتفع (3.25 فأكثر)، و70 في المائة لنتائج اختبارات قبول كثيراً ما يثار حولها اللغط. فهناك من يميل نحو شيطنة الاختبار والقائمين عليه بتسريبه للمقربين منهم، مقابل إصرار الجهات الرسمية على أن الاختبارات تعد من قبل جهات مستقلة معتبرة كالجامعات وتحاط بالسرية التامة.

أياً كانت مبررات الطرفين، يبقى هناك أمور جوهرية تغفلها قواعد القبول، منها «مهارات» المتقدمين إلى سوق العمل. فكيف يمكن أن أساوي مثلاً بين شاب يعتبر «دودة كتب» أو «دِرّيس» كما نقول باللهجة المحلية، في حين تغلف قواعد القبول «مهارات وقدرات الحقيقة» كموظف. كلنا يعلم جيداً أن المعدل الدراسي مجرد مؤشر «التزام» مرحلي، لكنه لا يضمن بالضرورة قدرات الفرد على حسن الانخراط في بيئة العمل، ونجاحه في العمل الجماعي، ولا يعد المعدل ولا حتى النجاح في اختبارات القدرات دليلاً دامغاً على تحلي الفرد بمهارات قيادية، أو تواصلية، أو ذكاء اجتماعي وغيره.

إن بيئات العمل ميدان تنافس تختلف اختلافاً جوهرياً عن مقاعد الدراسة. فهي تتطلب مؤهلات عملية يمكن توظيفها في تحسين الأداء. فكيف نستبعد مثلاً خريج إحدى الجامعات تجشم عناء اجتياز المستوى الأول بنجاح لشهادة مهنية «كالمحاسب القانوني المعتمد» CPA، أو شهادة المحلل المالي المعتمد CFA، وتزخر سيرته القصيرة بنشاطات العمل النقابي والطلابي والتفاعل البناء مع أحداث المجتمع وربما التطوع في الهلال الأحمر أو غيرها من أنشطة تنم عن فرد واعد وفاعل يستحق فرصة التجربة أو على أقل تقدير منح تلك الجهود وزناً نسبياً في معادلة القبول.

كيف يمكن أن أساوي مثلاً بين خريج جامعة مرموقة merit بأخرى متواضعة في نسبة القبول. ولذلك بعد عقود من التوظيف الحكومي انتبهت الولايات المتحدة الأمريكية متأخراً لخطورة ذلك، فقررت في عهد الرئيس ترامب أن تقدم «المهارات» التي يتحلى بها الموظف الجديد على شهاداته في قرار يستحق الدراسة والتأمل والاستفادة منه في منطقتنا العربية.

كنت أفكر في تلك المعضلة، وآلاف الشباب الواعد الذين خسرتهم اختبارات القبول في الجهات الحكومية والشركات الكبرى لأنها تصر على إيجاد حل سريع (أو فلتر) يمكن أن يقلل أعداد المتقدمين بأي طريقة بحجة أنه ليس لدينا العدد الكافي من موظفي الموارد البشرية لفحص المتقدمين!

هذه التحديات ربما كانت السبب الذي دفع باحثين من أربع جامعات في إيجاد طريقة يمكن للذكاء الاصطناعي فيها اختيار أفضل الطلبة المؤهلين بطريقة آلية للالتحاق بالجامعات. هم يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي سوف يكون في مقدوره مراجعة طلبات الالتحاق الجامعي بطريقة «أكثر عدالة وشفافية إذا استخدم مع عنصر التقييم البشري». وأشارت الدراسة التي نشرت في مجلة «ساينس أدفانسيس» إلى أن تطبيق الذكاء الاصطناعي بعد أن راجع 300 ألف ورقة بحثية للالتحاق بالجامعات تمكن من تحديد «السمات الشخصية مثل القيادة والقدرة على العمل بروح الفريق» لدى المتقدمين بحسب البيان.

ولن استغرب أن تتوسع الشركات والجهات الرسمية في خوض غمار هذه التجربة لقياس السمات الشخصية للموظفين أو جانب من مؤهلاتهم، وسيكون الضحية بلا شك فئة من الشباب الذين لا تعكس الأوراق والاختبارات حقيقتهم لكنهم في ميادين التنافس الوظيفي يتألقون بصورة مذهلة. ولا ننسى أن البعض تتفتق أذهانهم وقدراتهم في العمل بعد أن ينالوا حقهم من التدريب والتجربة.

فجميعنا تغيرنا بشكل جذري ليس بسبب مقاعد الدراسة بل بسبب الفرص التي أتيحت لنافي بيئات العمل، لأنها هي الاختبار الحقيقي لقدرات الفرد. ولذلك تخضع القوانين حول العالم كل موظف لاختبار الـ 100 يوم على سبيل التجربة العملية ثم يثبت بعدها عقده بشكل دائم، لكننا لا نفعل ذلك في مجتمعاتنا لاعتبارات اجتماعية، وهي في الواقع لب معضلة التوظيف و«معادلاته» النظرية.