تخضع الدراسات السياسية التي تجرى في المراكز والمعاهد المتخصصة، حكومية أم مستقلة، في جميع أنحاء العالم إلى ضوابط ما يعرف بـ «سمة العصر» أي الملامح الأساسية التي يتميز بها العصر سياسياً وعسكرياً واقتصادياً والدور الذي تلعبه مراكز القوة في ضوء التوازنات السائدة وما يكمن من مشكلات ومعضلات ودور المؤسسات الدولية في مقارباتها.

فما يجري استنتاجه من دراسة أية قضية وما هو ممكن أو غير ممكن في مآلاتها المستقبلية يخضع إلى أطر النظام العالمي الذي ترسم معالمه وتفرض ضروراته «سمة العصر».

في هذا السياق تبرز تساؤلات حول طبيعة «القطبية العالمية» وفيما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تمتلك زمام القطب الأوحد في العالم منذ نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن المنصرم، أم أن هناك مؤشرات على بروز تعددية في هذه القطبية مع زيادة التوترات والتشنجات في الأفق الدولي وظهور اصطفافات وتحالفات لها رؤى تتعارض مع رؤى الولايات المتحدة.

في مناسبات قليلة تتعرض التوازنات الدولية لأزمات عنيفة تختبر فيها مدى ثباتها من عدمه أو مدى تغيرها أو تغير بعض معالمها ومن هو صاحب اليد الأعلى في صناعة الأحداث والتحكم في مساراتها، وهو مما يدخل في اهتمامات معظم دول العالم ويحظى باهتمام خاص من لدن المراكز التي تعنى بالدراسات الاستراتيجية التي تتعلق بآفاق المستقبل.

فعلى مدى السنوات العشر الماضية، حدثت ثلاث أزمات اختبرت فيها «القطبية الدولية» أولاها سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، والثانية حرب روسيا وأوكرانيا، ونحن نشهد الآن الأزمة الثالثة في السابع من أكتوبر المنصرم والتي تتعلق بأحداث غزة.

والحقيقة أن هذه الأزمات الثلاث تعتبر من حيث الجوهر تحدياً للولايات المتحدة، رغم أنها لم تنل منها مباشرة من قريب أو بعيد. ففيما يتعلق باحتلال شبه جزيرة القرم لم تتحرك واشنطن عسكرياً لأنها لا ترغب في مخاطرات نووية، بل وظفت قدراتها السياسية والدبلوماسية في فرض عقوبات على روسيا وعزلها دولياً.

أما في مواجهة الأزمة الثانية، فقد تحركت عسكرياً من غير أن تشرك قواتها بذلك، بل وفرت كل مستلزمات القتال لأوكرانيا وحشدت دول قارة أوروبا لتحقيق ذلك، ووسعت من عضوية حلف الناتو في القارة.

أما في الأزمة الثالثة فقد انتفضت بشدة لتعود بقوة إلى منطقة الشرق الأوسط التي كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن تخليها عنها. مواجهة الولايات المتحدة لهذه الأزمات لا تشابه ما واجهته في حقبة الحرب الباردة التي اتسمت بوجود رؤى آيديولوجية لها تداعيات مصيرية على مستقبل النظام الاقتصادي الغربي.

معظم دول العالم ترى أن أمنها القومي يرسمه التوازنات داخلها على مستويات عدة يتقدمها أمن مواطنيها وأمن مؤسساتها بما يشمل نواحي عدة اقتصادية وعسكرية وغذائية ومائية ومعلوماتية وسيبرانية، وعلى المستوى القريب جغرافياً يتعلق بالعلاقات مع دول الجوار أو القريبة منها.

أما بالنسبة لدولة بحجم الولايات المتحدة اقتصادياً وعسكرياً، فهي ترى أن أبعد نقطة في العالم هي من ضمن اهتماماتها أمنياً أو اهتمام الدول التي تحت جناحيها، وبالتالي محط اهتمام سياساتها.

وتقترن بهذه النظرة جاهزيتها في استخدام أذرعها القوية سياسياً ودبلوماسياً، وتوظيف نظامها النقدي وما يمتلكه من نفوذ على اقتصادات العالم من جهة، والقدرة على الحشد السريع لقدراتها العسكرية وأساطيلها البحرية وسلاحها الجوي من جهة أخرى.

فالقوات المسلحة الأمريكية تنتشر في عدد كبير من القواعد الجوية يربو عددها على ثمانمائة وخمس وثلاثين قاعدة موزعة في ثمانين بلداً، تضم ما يقرب من مائتي ألف جندي بينهم ما يقرب من سبعين ألفاً في منطقة الشرق الأوسط وحدها.

فعندما اندلعت أزمة غزة سارعت الولايات المتحدة إلى حشد قوة في شرق البحر المتوسط، كما تحشد في الوقت نفسه قوة في المحيطين الهندي والهادي تحسباً للصين التي تعتبرها واشنطن الدولة الوحيدة في العالم التي لا تخفي إرادتها لإعادة تشكيل منطقة شرق آسيا والنظام الدولي عموماً بالشكل الذي يناسبها، وهو مما لا تسمح به.