في حديثه مع الكاتب والإعلامي الأمريكي الشهير فريد زكريا على شاشة cnn ذكر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن التقرير السنوي، الذي تصدره المنظمة الدولية حول كل صور التعدي على الأطفال في دول العالم أثناء النزاعات المسلحة، لم يحمل في أي عام خلال الأعوام الستة عشر، التي صدر خلالها سنوياً، عدداً من القتلى الأطفال في أي دولة في العالم مثل هذا الذي يشهده قطاع غزة جراء الاعتداءات الإسرائيلية، خلال الأسابيع الستة، التي مضت منذ بدئها.
وأوضح غوتيريش أن العدد الأقصى، الذي شهدته بعض البلدان من الأطفال القتلى نتيجة الصراعات المسلحة، لم يتجاوز 600 طفل سنوياً، بينما كان عدد الأطفال الفلسطينيين، الذين قتلوا نتيجة الهجمات الإسرائيلية، عند إجرائه هذا الحديث التلفزيوني، قد وصل إلى نحو 5000 طفل في 6 أسابيع.
ويبدو مؤكداً أن مسلسل وقوع الضحايا من الأطفال متواصل وبكثافة مع العدوان الإسرائيلي المتواصل على كل مناطق قطاع غزة، وخصوصاً التجمعات السكنية المدنية كبيرة الكثافة، ويبدو واضحاً إحصائياً مما ذكره الأمين العام أن عدد القتلى الأعلى من الأطفال سنوياً في أحد الصراعات المسلحة، وهو 600 طفل، وهو ما يحدث في غزة على يد القوات الإسرائيلية كل 5 أيام تقريباً، وذلك بخلاف المفقودين من الأطفال، والذين يقترب عددهم عند نفس اللحظة من ثلاثة آلاف طفل.
والمتيقن هو أن جزءاً كبيراً من الاهتمام الإعلامي، ومن بعده السياسي الرسمي والشعبي، بما يجري في غزة من مآس، كان مصدره المباشر والأقوى هو مشاهد وصور الأطفال ضحايا القصف الإسرائيلي الجوي والبري والبحري، عبر مختلف وسائل الإعلام التقليدية، وصفحات التواصل الاجتماعي، والذين لفتت أعدادهم، وما يحل بهم من كوارث نظر أكبر وسائل الإعلام العالمية، بما فيها الأمريكية، بالرغم من الدعم الكامل، الذي أبدته إدارة الرئيس بايدن لإسرائيل منذ بدء هجماتها على القطاع، والحقيقة أن جزءاً مهماً من التغيير، الذي راح يطرأ على عديد من المواقف الرسمية للحكومات الغربية، خصوصاً الأوروبية، ونسبياً في الولايات المتحدة، والكثير من التحول في اتجاهات الرأي العام في هذه البلدان لرفض العدوان الإسرائيلي، وتأييد الحق الفلسطيني في الحياة وتقرير المصير، كان مصدره الرئيسي هو مشاهد الضحايا من الأطفال، ضمن المشهد المأساوي الأشمل، الذي يضم الضحايا المدنيين عموماً، وتدمير كل ما هو حياة في قطاع غزة.
وعلى مأساوية وقسوة ما يتعرض له أطفال غزة جراء القصف والعدوان، وخروج هذا ليس فقط عن القانون الدولي الإنساني، بل وعن الانتماء للإنسانية نفسها، فإن المأساة الحقيقية القادمة تكمن في بقية أطفال قطاع غزة، الذين سينجون من الحرب الغاشمة هذه، وهم يمثلون أكثر من 40 % من سكانه، وبعدد يقارب مليون طفل دون الثامنة عشرة، فكل هؤلاء ظلوا يعايشون ويعانون طوال الأيام الماضية وحتى انتهاء العدوان من الدمار الهائل، الذي لحق بكل مناطق القطاع، ومن فقدان الأهل والأصدقاء والجيران والأحباب، ضمن عشرات الآلاف من الضحايا حتى الآن بالقتل أو بالإصابة، فضلاً عن الحصار الكامل، الذي أفقدهم أبسط وأدنى ضرورات الحياة.
إن هؤلاء الناجين من أطفال غزة خصوصاً وفلسطين عموماً هم أصحاب المستقبل عندما يكبرون ويصبحون وحدهم ليواجهوا هذه الأوضاع، وهذا المستقبل يحمل غالباً احتمالين لا ثالث لهما: إما أن تظل أوضاع القضية الفلسطينية كما هي بدون حل يعيد للفلسطينيين حقهم في دولة مستقلة على أراضي الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ويضمن لهؤلاء الأطفال مستقبلاً تحفظ فيه كرامتهم وحقوقهم الإنسانية والوطنية، وعندها سنجد أنفسنا أمام حلقة جديدة أخطر من الصراع الدموي، يخوضها جيل أكثر راديكالية مما عليه أجيال اليوم، وإما أن يتم وفوراً إيقاف إطلاق النار في غزة، تعقبه سريعاً عملية سياسية جادة وعاجلة، تهدف وتصل إلى حل الدولتين، الذي يبدو العالم كله تقريباً اليوم مجمعاً عليه، عدا إسرائيل، بحيث يكون للمستقبل لون آخر أكثر أملاً وإشراقاً، بما ينسي هؤلاء الأطفال الناجين الأهوال، التي يعيشونها، ومعهم قطاع غزة كله حتى اللحظة وفي كل لحظة.