«الحلال» و«الحرام» في صحافة الغرب الليبرالي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحدث أن يعتقد البعض في نزاهة وحقيقة المثل والقيم التي تحكم العمل الصحفي فيطلق لنفسه العنان ويتكلم بالموضوعية والمهنية التي تفرضها معايير العمل المهني الصحفي والأخلاقيات التي تتحكم فيه، فيكتشف أن هناك مسافة شاسعة بين الاعتقاد في منظومة قيمية والممارسة على أساسها، والأدهى والأشد وطأة على الضمير المهني الصحفي والضمير الإنساني بصفة عامة أن يتم تناسي الجوانب القيمية أو تركها جانباً دون أدنى حرج أو إحساس بالذنب تجاه الحقيقة وتجاه الأخلاقيات المتحكمة في العمل الصحفي.

وقد كانت الحرب الروسية الأوكرانية مناسبة لمعاينة هذا الانحراف الخطير بالمنظومة القيمية والأخلاقية المنظمة للعمل الصحفي والإعلامي، وتأكد هذا المنحى مع الحرب في غزة والضفة الغربية والتي تحولت إلى عدوان غاشم وغير مسبوق ضد الفلسطينيين، وعصف هذا العدوان بمقتضيات وأسس القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وجرف معه فيما يبدو معايير العمل الصحفي المهني وأخلاقياته أيضاً.

وإن التركيز على أداء الصحافة والإعلام في فرنسا تحديداً، له ما يبرره في تاريخ هذا البلد في هذا الخصوص، فهو الذي انتصب على مدى العشريات السابقة «يعلّم» البشرية مبادئ العمل الصحفي وأخلاقياته وهو يتهيأ لاستقبال مؤتمر الاتحاد الدولي للصحفيين الذي يحتفل بمئة سنة على نشأته.

وعلى مدى الأسبوع الماضي تابعنا مختلف البلاتوهات التلفزيونية والمواقع والصحف الفرنسية ولاحظنا نزوع النسبة الكبيرة من هذه الوسائط الصحفية والاتصالية إلى الانحراف بمعايير العمل المهني وبأخلاقياته دون إبداء أي حرج أو قلق أو حرص، طالما طلبوه من «الشعوب التي تريد الالتحاق بركب الحضارة والمدنية» وذلك على أساس أن المدنية والحضارة والقانون هو مجال احتكاري لنادي الغرب الليبيرالي الديمقراطي.

وقد عاينّا على سبيل المثال أنه وفي نسخ الإعادة لبرنامج ليلي في إحدى القنوات الإخبارية الفرنسية، نسبة مشاهدته كبيرة، وقع في حصص الإعادة هذه، حذف كل كلام الكاتب الصحفي والمعلق في البرنامج غالاغان فينويتش الذي قلل فيه من شأن ما عثر عليه جيش الاحتلال في مجمع الشفاء بغزة وطالب نتنياهو «بإرسال قادة الاستخبارات إلى المستشفى والبقاء هناك حتى إثبات ادعاءاتهم»، فينويتش لم يفعل شيئاً سوى القول «بوجود مسافة بين ادعاءات دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين ما كشفت عنه النتائج التي بثها الجيش، وقد اضطر الرجل إلى تعديل مواقفه بشكل كبير خلال الحصة الصباحية للقناة نفسها الاثنين.

المغالطات نفسها تمت معاينتها لما أعادت مصادر في السلطة الفلسطينية رواية صحيفة هآرتس الإسرائيلية التي استعرضت نتائج تحقيق أولي أظهر أن طيران الجيش الإسرائيلي قصف مواطنيه يوم 7 أكتوبر الماضي وتسبب في مقتل العشرات منهم وتدمير سياراتهم، ولكن القناة الفرنسية ركزت فقط على رواية السلطة الفلسطينية وتناست مصدر الخبر، بل هي أمعنت في ذلك وقامت بتحويل وجهة الموضوع نحو جدارة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس بأن تكون شريكاً في مفاوضات مستقبلية حول مستقبل غزة والضفة الغربية، مصطفين بذلك وراء الموقف الإسرائيلي والأمريكي الذي يعتبر السلطة الوطنية الحالية تقادمت ولم تعد قادرة على الاضطلاع بالمهام المستقبلية!

ويبدو أنه من نافلة القول بأن هذا الإعلام الفرنسي والغربي عموماً منحاز بالكامل ضد مصالح الشعوب ويرفض الرأي الآخر، وغابت عنه المعايير المهنية للعمل الصحفي، وهو من شأنه أن يؤدي إلى تغييب الحقائق وتزييف الوعي.

وقد نلخص القول بأن الغرب الليبيرالي والديمقراطي حسب الحالة يعتبر أنه من حقه وواجبه مطالبة الآخرين باحترام القانون والأخلاق عموما لأن هذا الآخر في تقديره، ما زال في مرحلة التدرب على الديمقراطية وعلى قواعد العمل الصحفي، وفي المقابل، وهم، الذين تجاوزوا مرحلة التدرب، ليسوا مطالبين باحترام ذلك أو هم يمارسونه بسياسة المكيالين ووفق متطلبات مصلحة هذه الدول.

إن سياسة اختلاف المكاييل هي ترجمة واضحة لكون السياسة والعمل الصحفي في هذه الدول لا تحكمه المبادئ والأخلاق وإنما تتحكم فيه وبالطلق مصلحة الدول، وإن الاصطفاف المذهل للمنتوج الصحفي على تنوع وسائطه وراء السلط الحاكمة في دول الغرب الليبرالي «الديمقراطي»، لم يعد يبرر مطلقاً مطالباتهم المتكررة لصحفيي العالم باحترام «مسافة أمان» مع دولهم فضلاً عن مطالبتهم بمعاداة دولهم.

 

Email