ربما يكون من غير المبالغة القول، إن في نفس كل مثقف حر، عربياً كان أم غربياً، محباً للشعر والفن والجمال والفلسفة والتأمل، شيئاً من جبران خليل جبران.
قصاص وشاعر ونحات ورسام وفنان تشكيلي غزير الإنتاج، رغم عمره القصير الذي لم يتجاوز 48 سنة (1883-1931) أصدر خلالها أكثر من ثلاثين كتاباً باللغتين العربية والإنجليزية، تجولت بين القصة والمسرحية والشعر والتأملات في الطبيعة ومظاهر الحياة وعجائبها، وأفراحها ومآسيها، وسلوك بنيها، والعلاقات المعقدة المتشابكة التي تربط بعضهم ببعض، ونظرة البشر إليها، وإلى أنفسهم وإلى الآخرين التي تصوغ مسار تلك الحياة وتجعلها تتأرجح بين السعادة والشقاء والأمل واليأس.
وكان «النبي» هو كتابه الأشهر بينها الذي صدر عام 1923، وترجم إلى معظم لغات العالم، ولا يزال من أكثر الكتب مبيعاً، وتحتفل هيئة الأمم المتحدة بمئوية صدوره منذ بداية هذا العام وحتي نهايته، باعتباره تمجيداً للإنسانية في أرقى صورها محبة وتسامحاً وتحرراً.
عاش جبران في المهجر بين الولايات المتحدة وفرنسا وحيداً، بعد أن فقد أسرته واحداً تلو الآخر بسبب تفشي مرض السل بين أفرادها. ولم يكن العالم الاسكتلندي السير ألكسندر فليمنغ قد أهدى البشرية بعد اكتشافه المهم للمضاد الحيوي «البنسلين» في العام 1928، بعد انتشار واسع لمرض السل بين الجنود، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى.
ورغم إصابته هو نفسه بالسل أو ما كان يعرف في الثلث الأول من القرن العشرين بالمرض الأبيض، فقد تمكن جبران من دراسة فن الرسم، في باريس قبل أن يستقر بشكل نهائي في نيويورك، ويشكل مع غيره من أدباء المهجر تجمعاً ثقافياً ويرأسه هو «الرابطة القلمية» للتعريف بأدب المهجر ورواده من الكتاب والشعراء.
سواء بالكتب التي نشروها، أم عبر الصحف والمجلات التي أنشأوها في دول أمريكا الشمالية، ممن شكلوا مدرسة جديدة في تاريخ الأدب العربي المعاصر بشكل عام وفي حركة الشعر العربي على وجه الخصوص، التي قدموا إليها ما بات يُعرف «بوحدة القصيدة ووحدة نصوص الديوان» كان من بين أشهر روادها إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة.
كان الحب هو الأيقونة التي نحتها ورسمها وكتبها جبران بخيال خصب مترع بالصور والدلالات والرموز حول الكون والإنسان، حول الموت والحياة، حول الحبيبة مي التي عشقها ولم تمنحه الحياة الفرصة للالتقاء بها أبداً، إلا عبر كلمات الرسائل المتبادلة بينهما وكانت مي هي من قالت وهل من شقاء في غير وحدة القلب، ولعلها تكون نظير جبران خليل جبران الأنثوي.
في مجال الثقافة والفكر، وحركة التنوير والنهضة الفكرية الإصلاحية العربية في بدايات القرن العشرين.
عاش «جبران» عاشقاً للجمال محرضاً الإنسان على محبته. عاش محباً للحب في ذاته، ورأى في الحب - كل أنواع الحب - المخلّص من كل الآلام، والمهدي إلى كل نجاح.
والمبشر بالأمل والمنقذ من وهدة الاكتئاب ووحشة العدم. وفي كتابه النبي الذي ينطوي على 26 قصيدة تحمل رسالته للبشر، رسم بنفسه لوحاتها، يستطيع من يدقق فيها، أن يجد طيف مي وصورتها. فالمحبة كما يقول لا تملك شيئاً، ولا تريد شيئاً أن يملكها، لأن المحبة مكتفية بالمحبة. فنبيه الذي اختار له اسم «المصطفى» ينصحنا:
إذا أحببت، فلا تقل إن الله في قلبي، بل قل بالأحرى أنا في قلب الله، أوليس الله هو المحبة؟ لهذا ينصح المصطفى البشر: إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدرة، وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها، وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها.
يقول لنا «المصطفى»: إن الجمال ليس بالحاجة غير المكتملة، بل هو انشغاف وافتتان.. هو صورة تبصرونها ولو أغمضتم عيونكم، وأنشودة تسمعونها، ولو أغلقتم آذانكم. والجمال هو الأبدية، تنظر إلى ذاتها في مرآة، ولكن أنتم الأبدية وأنتم المرآة. ويقول: لا يصح العمل.
ولا يكون مباركاً، إلا إذا كان رفيقه الحب، فلا يستطيع أمرؤ في الوجود أن يبني بيتاً أو يحرث أرضاً أو ينشد لحناً، إلا إذا كان ما يقوم به ممزوجاً بعاطفة الحب.
عاش جبران خارج المكان الذي ولد فيه ونسب إليه، لبنان، لكنه هناك، في الغرب، نقل إليه بكتبه وإبداعاته وكتاباته الوجه الحضاري والثقافي والفني والفكري للثقافة العربية. وقد أدرك صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، كما هي عادته دائماً، أهمية المساهمة في إبراز ذلك الوجه المعرفي والتأكيد عليه.
فعكفت المؤسسات الثقافية التي يشرف عليها في الإعداد لنشر وتقديم ترجمة جديدة لكتاب النبي وغيره من كتب جبران للمشاركة في الاحتفال الأممي بهذا المنجز الأدبي الفريد، لكي يصبح الاحتفال بذلك، احتفالين، مئوية كتاب «النبي» والفرحة بصدور ترجمة جديدة له.