ما زلتُ أذكر ذلك اليوم، حان وقت صلاة الفجر وصوت المنبّه من جديد ما زال حسب التوقيت المحلي لمدينتنا الحبيبة أبوظبي. أما عن المنبّه الآخر فحسب توقيت مدينة كليفلاند الأمريكية، ما زالت لا تعترف به. وما أن انتهينا من وردنا حتى فتحت لها الشرفة ككل يوم.

على شرفة الانتظار تودع القمر، وتستقبل الشمس، تعانق الحب وتسوق له جنون الصبابة بكؤوس يملؤها الغرام ولواعج الشوق لتلك الديار. من هذه المدينة تسوقها الأشواق إلى مدينة الظباء على رغم أننا لم نتجاوز شهراً واحداً على وصولنا هذه المدينة الثلجية.

هنا كنا في أعلى ارتفاع البرج في الطابق قبل الأخير، نخيط ثوب الشوق ونطرز أطرافه، نزخرفه معاً بدموع الحنين. أما عن النسج فكنا ننسج خطوط الذكريات ونسافر معها عبر أميال لا عدد لها، فنتجاوز البحار والمحيطات وعلى موانئ أبوظبي ترسو مراكبنا.

على أريكة جانبية مليئة بالأغطية والبطانيات المتراكمة على ذاك الجسد النحيل، هنا وهناك، وما تضعه على الكفين وغيره على الرقبة، وما تلف به كامل أطرافها هذا وذاك، هذه هي.

تقسم أطرافها إلى قسمين، جزء يطل على العاصفة الثلجية والجزء الآخر على المدفأة المواجهة لمصراعي الشرفة وكأنها بين فصلي الشتاء والصيف، تشرق شمسنا كل يوم ونحن على شرفة الانتظار.

كنت قد أعددتُ لها قهوتها وهي تحتضن فنجانها بكفيها الناعمتين، تمسك به لتدفئة أناملها على رغم كثرة الأغطية المتراكمة في كل مكان. كان الطقس في ذاك اليوم بارداً جداً ككل أيام شهر ديسمبر القارس جداً. أذكر أن الحرارة كانت في ذاك اليوم تصل إلى تحت الصفر، وتتراوح أحياناً في تلك الفترة بين 0 و4- درجة مئوية.

يتساقط الثلج هنا وهناك في كليفلاند، وسفننا تبحر لا تبالي بالعواصف الثلجية، تبحر بنا إلى موانئ أبوظبي. طلبت مني أن أشبّ لها النار في المدفأة، ولها شرط لا بد منه، هو أن يكون من خشب الصنوبر، وإن لم أجده أن أسعى للبحث عنه في كل مكان. لا أعلم لماذا، ولكن لعله يذكرها بمرابع ومراتع تعشق السفر إليها.. حتى وإن كان بخيالها.

أغمضت عيناها وهي تستمتع برائحة القهوة الممزوجة برائحة اشتعال وتوهج الخشب. لم تكن تشربها قط ولكن لتسافر عبر رائحتها إلى مراتع اشتاقت إليها نفسها. مع تساقط الثلج وتمرده على رموش عينيها وتصلب طرفها قالت لي بصوت خافت: ساقتني قدماي إلى موطني سوقاً.

تنساق الذكريات وتتسابق إلى ذاك الفؤاد الجميل.. وما هي إلا ثوانٍ ونحن على تلك الشرفة المكتسية بثلوج كانت المفاجأة وهي عروض تشارك بها المدينة دولة الإمارات احتفالاتها باليوم الوطني كان دخولاً مهيباً للخيول وهي تحمل أعلام دولة الإمارات مع خلفية من النشيد الوطني لإماراتنا الحبيبة، بدأ العرض وبدأت القفزات والحركات التي تؤديها الخيول الليبيزانير بتوجيه من مدربيها، فتبعث في القلوب السعادة.

ما زلت أذكر سعادتها، لبست أجمل ما عندها وعلى جانب من تلك الشرفة بدأ احتفالنا ونحن نلوح بعلم إماراتنا الحبيبة ونرفعه عالياً وبصوت يملؤه الشجن قالت «لن ندع أحداً يعكر صفو يومنا هذا نستحق أن نحتفل وإن كنا خارج البلاد».

اللهم احفظ الإمارات وقادتها وشعبها من كل سوء ومكروه، وأدمْ عليها نعمة الأمن والأمان... اللهم آمين.

هذه هي... أمي رحمها الله.

رسخت كلماتها في قلوبنا بكل عفوية وبساطة

رحم الله وجهاً باسماً وروحاً طاهرة وخلقاً رفيعاً ونفساً راضية. رحم الله روحاً تعلمت منها الكثير، تعلمت كيف يكون عشق الوطن ببساطة.

دائماً كانت تردد: يجري حب الوطن في عروق كل واحد منا.... رحم الله قلباً لو فنت الدنيا ما أتت بمثله.