على مدار 75 عاماً شهدت مسيرة القضية الفلسطينية، محطات صعبة منعت وصول الإقليم العربي إلى الاستقرار، بل إنها من وقت لآخر تنفجر فجأة، بشكل يمثل خطورة على مستقبل العرب، ويهدد محاولاتهم للدخول في عصر الحداثة العالمية، فقد باتت هذه القضية «عقدة» داخل الخرائط العربية، وعلى مدار عقود لم تكن هناك مساعٍ حقيقية لفك خيوط هذه العقدة المستحكمة.
ولم تعد الأرض الفلسطينية تحتمل هذا الميراث من الصراع الطويل، ولم يعد الشعب الفلسطيني قادراً على التنازل عن صموده، وتمسكه بحلمه في دولته، كأي شعب آخر في العالم، كما أن العالم لم يعد أيضاً يمتلك رفاهية النجاة من تصدعات الانفجارات المتكررة، بين حين وآخر.
الشاهد أن عقوداً طويلة من اقتراح حلول لم تفلح في الوصول إلى المحطة المأمولة للقضية الفلسطينية، فإذا استعرضنا ماضي 75 عاماً فسنبدأ من حرب 1948 أو ما تسمى النكبة، مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956، ثم حرب يونيو في سنة 1967، ثم حرب الاستنزاف، وصولاً إلى انتصار السادس من أكتوبر في سنة 1973، وما تلاها من مبادرات أفضت إلى اتفاقيات سلام.
وعلى الرغم من هذا ظلت الحروب علامة مسجلة في المنطقة العربية، نتذكر الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في سنة 1978، ثم اجتياح العاصمة بيروت في سنة 1982، ثم الانتفاضة الفلسطينية الأولى في سنة 1987، والانتفاضة الثانية في سنة 2000.
فضلاً عن المحاولات التي بدأت منذ سنة 1991 في مؤتمر مدريد للسلام، واتفاق أوسلو في سنة 1993، واتفاق وادي عربة في سنة 1994، والمبادرة العربية للسلام في قمة بيروت في سنة 2002، حتى محطة الجولات المتتالية بين إسرائيل والفلسطينيين في غزة.
كل هذا المناخ المرتبك لم يصنع سلاماً، ولم يصل بنا إلى استقرار، وكان لا بد من إلقاء حجر في تلك البحيرة الثائرة من دون هدف حقيقي.
يوم الجمعة الموافق 24 نوفمبر من سنة 2023، طرح الرئيس عبدالفتاح السيسي مبادرة عن الحل الشامل للقضية الفلسطينية، عبر تقديم تصور كامل لوضع حد نهائي لهذه المعضلة المزمنة، بأن طالب المجتمع الدولي ومؤسساته كالأمم المتحدة، وقواها الكبرى بأن يتم الاعتراف بدولة فلسطينية كاملة العضوية بالأمم المتحدة.
هذه المبادرة المصرية الخالصة واحدة من أهم المبادرات للحل الشامل والعادل، فالرئيس السيسي رأى أن ثلاثين عاماً من المفاوضات والمسارات التي سار فيها العالم لم تصل إلى حلول، ومن هنا، فإن هذه المبادرة تقوم على وضع الدولة الفلسطينية على الطريق الصحيح بالشكل الذي يرتضيه الفلسطينيون، والعرب، وتوافق عليه القوى الدولية، فإذا ما سرنا في هذه المبادرة، فإن ذلك سيبرز مسؤولية وجدية من المجتمع الدولي بالفعل.
إذن نحن أمام مبادرة هي الأوضح في مسيرة القضية الفلسطينية، فهي تضع العالم أمام مسؤولياته، وتنهي بشكل قاطع أي محاولات مستمرة للمناورة أو التحايل للهرب من استحقاق وجود دولة فلسطينية، وهي مسؤولية تقع على عاتق المجتمع الدولي والأمم المتحدة.
وللحقيقة، فإنه بمتابعاتي ورصدي ردود الأفعال العالمية لهذه المبادرة، وجدت صدى كبيراً لقبول هذا الطرح، وإمكان التحرك فيه، فلقد أدرك العالم أن الخبرة المصرية الطويلة والعميقة في هذه القضية مفتاح الحل الشامل ولا سيما أن هذه المبادرة أيضاً حظيت بقبول واسع في الدوائر العربية السياسية، وحتى داخل الشارع السياسي الفلسطيني، الذي بات يعرف أهمية إعادة النظر في ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، وتوحيد الصفوف نحو هدف واحد، هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
هذه المبادرة، لا بد من أن تتم قراءتها بعناية من القوى الدولية، والمؤسسات الأممية، وطرحها للنقاش بشكل سريع وعاجل على طاولة الدبلوماسية العالمية، والتحرك الجاد من أجل إغلاق هذا الملف الدامي، الذي يستنزف قدرات الإقليم العربي، ويهدد استقرار الشرق الأوسط، بل العالم أجمع، غير أن هذه المبادرة تستند إلى حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وإقامة دولتهم وفقاً لجميع المواثيق والقوانين الدولية والإنسانية.
من دون النظر بعمق لأهمية هذه المبادرة التي تنصف الحق الفلسطيني، فلا شك في أن العالم سيظل يدور في حلقات مفرغة، لن تفضي إلى استقرار حقيقي، وفي النهاية فإن الخاسر هو كل القوى الدولية التي لديها مصالح في الشرق الأوسط.
أخيراً، أرى أن اللحظة الحالية مواتية لفتح صفحة جديدة لهذه القضية عبر مبادرة الاعتراف الأممي بالعضوية الكاملة لدولة فلسطين المستقلة، ودخولها الأمم المتحدة بعضوية كاملة، وبذلك، فإننا نضع أمام جامعة الدول العربية مهمة ومسؤولية طرق أبواب العالم من أجل دخول هذه المبادرة حيز التنفيذ.