تتابع مصر، باهتمام شديد، التطورات المتسارعة التي يشهدها النظام العالمي بشقيه السياسي والاقتصادي في السنوات الأخيرة، والتي أدت إلى انعكاسات ونتائج خطيرة ومؤثرة ما زالت تتوالى فصولها على الصعد السياسية والأمنية والاستراتيجية والاقتصادية والمالية والتجارية، بدرجات متفاوتة وإن كانت كلها مهمة.
ولقد كانت مصر وما زالت في مقدمة الدول التي تأثرت بهذه الانعكاسات وتحملت – وما زالت – أعباءً باهظة نتيجة لهذه التطورات على الساحتين الدولية والإقليمية، سواء تلك الناجمة عن القلاقل والاضطرابات في منطقتنا منذ عام 2011، أم انعكاسات الحروب التجارية والاقتصادية بين الشرق والغرب، خصوصاً بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.
ثم كانت تداعيات انتشار جائحة كورونا وانعكاساتها الاقتصادية والتجارية الهائلة على جميع الدول، بما في ذلك مصر التي تأثرت تجارتها الدولية ومعظم مصادر الدخل بها، نتيجة الإغلاقات العالمية وارتفاع تكاليف الشحن والتأمين، وتراجع نسب النمو، فضلاً عن تضاعف النفقات الاجتماعية للتخفيف على الفئات المتضررة من تباطؤ النشاط الاقتصادي، إضافة إلى الإنفاق الواسع في المجال الصحي، وغير هذا من الآثار المباشرة وغير المباشرة.
أما المرحلة الأسوأ من الانعكاسات العالمية، فكانت الحرب الروسية – الأوكرانية، وما رافقها من حرب العقوبات بين روسيا والغرب، وما نتج عن هذه الحرب من زلازل سياسية وأمنية واستراتيجية واقتصادية أثرت بعنف على أوضاع النظام الدولي بشقيه الاقتصادي والسياسي، ووصل العالم إلى مرحلة أسوأ من كل فصول الحرب الباردة السابقة.
وضاعف من التأثير السلبي لهذه الحرب والمناخ الذي صاحبها، السياسات الأنانية المتشددة التي اتبعتها الأسواق الكبرى، المالية والتجارية، والتي كانت بمثابة الصدمة للأسواق والدول النامية التي أغلقت في مواجهتها كل سبل الحصول على تمويل التنمية، وتعرضت العملات الوطنية في معظمها لضغوط هائلة وسط انسداد الآفاق العالمية أمام الجميع. وكانـت، ومـا زالـت، مـصر مـن بيـن أبرز الـدول التـي تعرضـت لهـذه الضغـوط، خصـوصاً في المجالات المالية والنقدية.
يضاف إلى كل ذلك، خصوصية الأوضاع في عديد من الدول حـول مصر من كل الاتجاهات، حيث بدت مصر كواحة استقرار في محيط يشهد اضطرابات هائلة مدعاة للقلق الشديد، سواء في السودان أم ليبيا أم اليمن أم سـوريا، واليوم في غزة وفلسطين كلها. ويضاف إلى هذا اضطرابات متنوعة تشهدها نحو عشر دول أفريقية في الدائرة الأوسع التي تحيط بمصر وترتبط بها بصورة أو بأخرى.
في مواجهة هذا الواقع، تحركت الدولة في مصر على مسارات عدة بشكل متسارع، كان في مقدمتها السعي إلى وضع وتنفيذ استراتيجية الاعتماد على الذات، ورفع نسب الاكتفاء الذاتي من الاحتياجات الغذائية والزراعية، وكذلك السلع الصناعية ومستلزمات الإنتاج. واستلزم هذا التوجه ضرورة اتخاذ خطوات جذرية في مجال تشجيع الاستثمارات المباشرة سواء المحلية أم الخارجية، وتوطين الصناعة، والمزيد من التنمية الزراعية الأفقية والرأسية.
في الوقت نفسه، تم التفاعل المصري الإيجابي والسريع مع مختلف القوى والتجمعات الاقتصادية العالمية، خصـوصاً تلك الموجودة في القارة الآسيوية، وفي مقدمتهـا تجمع «بريكـس» الذي أصبحت مصر عضواً به مع شقيقتيها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية أخيراً. فهذه التجمعات والمجموعات تسعى إلى إصلاح شامل للنظـام العالمي، مـن خلال وضع حد لهيمنة عملات الدول الكبرى، خصـوصاً الدولار الأمريكي على الأسواق والمعاملات الدولية، والبحث عن بدائل للتمويل المشترك وتشجيع التنمية والتجارة البينية داخل هذه التجمعات الإقليمية والقارية لصالح جميع أعضائها.
إن إدراك مصر لخطورة التحولات الدولية الراهنة، وسرعة تحركها لضمان مصالحها ومكانتها، كان هو الكفيل بالحد مما تتعرض له من انعكاسات سـلبية خطيرة لها، ومساعدتها على العودة إلى مسار النمو المرتفع والسعي نحو تحسين مستوى الخدمات والحياة لجميـع مواطنيها، فضلاً عن تحقيق الهدف المشترك مع شركائها، وهو بناء نظام عالمي اقتصادي ومالي وتجاري جديد أكثر عدلاً وتحقيقاً لمتطلبات دول العالم غير الغربية التي في طريق النمو.