يبدو واضحاً من مجريات تفاعلات العالم خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بما عرفه من قضايا وأزمات كبرى، أنها باتت هي التي تحدد مسارات مستقبله سواء القريب أو المتوسط أو البعيد، وأن إدراك مختلف دول العالم لها هو الذي سيحدد مكانها في هذا العالم.

كانت جائحة كورونا، هي التحدي الأول الذي واجه قدرات العالم الطبية والعلمية والاقتصادية، ومدى قدرته على التصرف مجتمعاً تجاه أزمة كونية تعدت كل الحدود السياسية، وظهرت آثارها الكارثية على الجميع.

ووجهت الجائحة ـ الأزمة ضربة قاصمة لمفهوم «العولمة» الذي كان يروج له لعدة عقود سابقة، وعاد العالم في ظلها إلى مفهوم الدولة الوطنية ومصالحها المحددة، حتى لو تعارضت مع مصالح دول أخرى قريبة أو بعيدة، فالبحث عن نجاة شعوبها من الوباء كان هو البوصلة التي حددت لكل حكومات الدول مساراتها بغض النظر عن تأثير هذا على الآخرين، فشهدنا ليس فقط تعارض سياسات، بل وأحياناً تصارع على موارد النجاة وأبرزها اللقاحات والأدوية اللازمة للوقاية والعلاج.

وأتت بعد هذا بشهور الحرب الروسية ـ الأوكرانية أولاً ثم الحرب الإسرائيلية الدائرة حالياً على غزة والصامتة على الضفة الغربية. وقد أبرزت الأزمتان العسكريتان ـ السياسيتان أمرين مهمين للغاية، لهما تأثيرهما على النظام العالمي وكل تفاعلاته الحالية والمستقبلية. الأول، هو تأكيد ما فعلته جائحة كورونا، من بلورة للانتماءات الوطنية والقومية لكل دول العالم وشعوبها، بحيث زاد تحطم مفهوم «العولمة» وتراجعه لصالح «الدول والمجتمعات الوطنية»، التي يبحث كل منها عن نجاته أولاً من التداعيات الخطيرة من الأزمتين، ثم الحفاظ على مصالحه في ظلهما.

أما الأمر الثاني، فهو إعادة تقسيم وترتيب التحالفات والكتل الدولية التي ظلت تهيمن على العالم منذ أربعة عقود على الأقل، لصالح أخرى راحت تتشكل بسرعة شديدة، وإن لم تأخذ بعد صورتها الأخيرة. فالحربان – الأزمتان، أعادتا ترتيب البيت الأوروبي داخلياً وعلاقاته الإجمالية والتفصيلية بالحليف الأمريكي.

كذلك، فقد أعادت قوى «الشرق» وعلى رأسها الصين وروسيا والهند، خريطة تحركاتها وتحالفاتها وتكتلاتها عبر العالم، سعياً منها لإزاحة هيمنة الغرب الأمريكي ـ الأوروبي وتكتلاته عن سدة قيادة العالم كما ظل الحال لهذه العقود الأربعة.

هذا التسارع في تطورات النظام العالمي بشقيه السياسي والاقتصادي بشكل متلاحق خلال تلك السنوات الأخيرة، أدى إجمالاً إلى تغير موارد القوة في العلاقات الدولية، ومراكز التأثير، وأنماط التحالفات وتجمعات المصالح، الأمر الذي يشير، بقدر كبير من اليقين، إلى أننا أمام إعادة تشكيل النظام الدولي على نحو يشبه ما حدث عقب الحرب العالمية الثانية، ولكن بأدوات العصر الراهن، وأبرزها: امتلاك تكنولوجيا العصر، والقدرات الصناعية والإنتاجية الكبيرة والمتقدمة، وقدرات المنافسة الحديثة الكفء على الأسواق والتجارة العالمية، والنفوذ الثقافي في ساحات العالم الجديدة، بما في هذا العالم الافتراضي الذي أصبح المؤثر الأكبر على واقع الأفراد والشعوب.

في ضوء هذا الواقع المتغير بسرعة واتساع، فإن الحفاظ على المصالح الوطنية لكل دولة، الحالية والمستقبلية وتنميتها، يتطلب إدراكاً كاملاً وواعياً لطبيعة تلك المتغيرات الجديدة وما وراءها من ظواهر ومستجدات، وقراءة مدققة لأبعادها وآثارها، ومن ثم التحرك بمرونة واستجابة استراتيجية لضرورات المرحلة الراهنة.

والمهم في كل هذا أن تشرع الدول، وخصوصاً في عالمنا النامي، وسريعاً، في التحرك في كل الدوائر الجديدة التي رسمتها المتغيرات الثلاثة المشار إليها، بما في هذا الإقدام على الانخراط في البعض منها مما كان قبل سنوات قليلة يبدو بعيداً عن التصور والإمكان، وهنا مثال الانضمام إلى تجمع «بريكس» من جانب الإمارات ومصر والسعودية قبل شهور قليلة.

إننا ولا شك أمـام حالـة ـ أو حالات ـ اسـتقطاب جديـدة، سينتج عنها عالم جديد، وهو الأمر الذي يتطلب من دولنا الوطنية سرعة التحرك بمرونــة عــلى كل الساحات الدولية لضمان تحقيق أكبر قدر من مصالحنا الوطنية.