تثير الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة، تساؤلاً جدياً حول طبيعة الحروب التي دارت في منطقتي الشرق الأوسط والعالم العربي خلال العقود الأخيرة. وتعريف العالم العربي لا يحتاج لمزيد من الإيضاح، بينما يعرف الشرق الأوسط بمناطق شرق العالم العربي، بدءاً من مصر ومعها الخليج العربي، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان، ويضاف إليهم من خارج هذا العالم كل من إيران وتركيا وإسرائيل، والأجزاء الشرقية من قبرص.
والملاحظة الرئيسة على شكل الحروب التي دارت في هاتين المنطقتين خلال أكثر من خمسة عقود، بدءاً من الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى عام 1948، أنها في أغلبيتها الساحقة كانت حروباً نظامية بين جيوش تقودها دول. وكانت الاستثناءات للحروب النظامية خلال تلك الفترة قليلة، وكان أولها هو المقاومة المسلحة التي قادتها جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي بين عامي 1954 و1962، حيث حصلت الجزائر على استقلالها بعد أن انتصرت فيها. ولا شك أيضاً أن الاستثناء الآخر، كان هو العمليات الفدائية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية تجاه إسرائيل، بعد إطلاق رصاصتها الأولى في 1 يناير 1965، بانطلاق حركة فتح، ويدخل ضمن هذا، الاشتباكات التي دارت بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطات الأردنية في سبتمبر 1970. ويبدو الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، لمواجهة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، نموذجاً إضافياً للحروب غير النظامية في تلك الفترة.
وكانت أبرز الحروب النظامية خلال تلك العقود الخمسة، العدوان الثلاثي على مصر (إنجلترا وفرنسا وإسرائيل)، وحرب يونيو 1967 بين إسرائيل ومصر والأردن، وحرب أكتوبر 1973 بين مصر وسوريا وإسرائيل، وبعض الاشتباكات غير الواسعة بين الجيشين المغربي والجزائري في بداية الستينيات ومنتصف السبعينيات، ثم الحرب العراقية – الإيرانية بين عامي 1980 و1988، وبعدها الحرب الدولية على العراق عام 1991، بعد احتلاله للكويت، وآخرها الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق عام 2003.
منذ هذه الحرب، توقفت تقريباً الحروب بين الدول في منطقتي الشرق الأوسط والعالم العربي، لينفتح الباب واسعاً لما يسمى بالحروب غير المتناظرة أو غير المتكافئة، والتي يكون القائمون بها ممن يطلق عليهم «الفاعلون من غير الدول»، أي الجماعات والتنظيمات والميليشيات التي لا تنتظم في صورة حكومة شرعية تحكم بلداً كاملاً وشعبه. وإذا لم نعتبر الانتفاضتين الفلسطينيتين عامي 1987 و2000، حروباً بالمعنى المعروف، لكونهما تحركات شعبية، وليستا مواجهات بين فصائل مسلحة والجيش الإسرائيلي، يصبح لبنان هو الميدان الأول لهذه الموجة من الحروب غير المتناظرة، التي يكون أحد طرفيها أو كلاهما من الفاعلين من غير الدول، حيث كانت الحرب بين حزب الله والجيش الإسرائيلي عام 2006، هي الأولى منها.
وجدير بالملاحظة، أنه منذ الربيع العربي عام 2011، اندلعت الحروب غير النظامية في عدد من الدول العربية، من جماعات وتنظيمات ضد الدولة، وحدث هذا في ليبيا وسوريا واليمن، وقبلهم في العراق، قبل استقرار أوضاع الحكومة المركزية فيه، ومؤخراً في السودان، منذ بداية العام الحالي. أما الجدير بالملاحظة أكثر، فهو أن غزة باتت هي المنطقة الأكثر اشتعالاً بهذا النوع من الحرب غير النظامية، وعلى هامشها يبدو الجنوب اللبناني والضفة الغربية. فقد شهدت غزة ست حروب، تشمل العدوان الإسرائيلي الغاشم الحالي عليها، وذلك في أعوام 2008، و2012، ثم في عامي 2014 و2021، وفي عام 2022، ثم الحرب الحالية.
الواضح والأكيد اليوم، هو أن ظاهرة الحروب غير النظامية، هي الأكثر تأثيراً وخطورة على استقرار منطقتي الشرق الأوسط والعالم العربي، وهي التي تهدد جدياً كل مقومات الأمن والسلام فيهما. والواضح والأكيد أكثر، هو أن الحروب غير النظامية في ليبيا واليمن وسوريا مؤخراً، تبدو قابلة للحل، وأنها في الطريق إليه، بينما تظل العقدة الأقدم والأكبر والأخطر، التي تنذر باستمرار هذه النوعية من الحروب، بكل ما تحمله من مهددات للأمن والاستقرار في الإقليم والعالم، متمثلة في القضية الفلسطينية، أقدم وأعقد الصراعات التي عرفها العالم خلال ما يقرب من قرن كامل.