في اليوم الحادي عشر من يناير عام 2024، انعقدت محكمة العدل الدولية بكامل هيئتها بقضاتها الأجلاء الخمسة عشر، في مقرها بمدينة لاهاي بهولندا، لكي تنظر في أول محاكمة لدولة إسرائيل بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها.
وأتت المحاكمة غير المسبوقة في تاريخ الدولة العبرية لكي تضيف إليها وإلى سكانها وحكامها ضربة جديدة شديدة الإيلام بعد ما حدث لها في هجوم السابع من أكتوبر 2023 ومعارك المئة يوم التي لم تتوقف حتى الآن.
إسرائيل هي نتاج واستثمار لما جرى في الحرب العالمية الثانية من جرائم حرب وإبادة تجاه عديد من شعوب العالم وجماعاته، ومنهم اليهود، على أيدي القوات النازية الألمانية في مختلف أرجاء أوروبا.
وإذا كانت مقدمات احتلال أجزاء متتالية من فلسطين قد بدأت منذ الانتداب البريطاني في بدايات القرن العشرين بعد صدور وعد بلفور عام 1917، فإن «عقدة الذنب» الأوروبية – الغربية مما جرى في الحرب العالمية الثانية، كانت هي المحفز والمشجع الأكبر على مساندة قيام «دولة يهودية» في فلسطين من جانب كل دول الغرب الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، في 15 مايو 1948.
وظلت صورة ورواية «الجماعات اليهودية» الضحية والمضطهدة في أوروبا طوال قرون، وصولاً لمآسي الحرب العالمية الثانية، هي المهيمنة على الوعي الغربي، بل وكثير من العالمي، وهي السند الذي اتكأت عليه إسرائيل في مذابحها للشعب الفلسطيني في نكبته عام 1948، وزحف احتلالها على أراضيه عبر السنين، لتصل اليوم إلى احتلال واستيطان ما يقارب 85 % من أراضي فلسطين التاريخية.
وظلت هذه العقدة حاضرة في الخطاب الرسمي الإسرائيلي طول العقود الثمانية الماضية، ويتم استدعاؤها في كل لحظة تحتاج إليها إسرائيل لتبرير عدوانها على الفلسطينيين وأراضيهم أو على دول الجوار العربي، كما حدث في حروبها المتتالية عليهم. ولم يستطع أيضاً الخطاب، والسلوك الغربي الرسمي طوال هذا الفترة الفكاك من الالتزام بمساندة «دولة اليهود» بكل السبل المادية والمعنوية، خوفاً من «عقدة الاضطهاد» التاريخية لهم.
وعندما تجرأ أحد كبار رموز وقادة هذا الغرب، وهو الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول، بعد عدوان إسرائيل في يونيو 1967، على وصف إسرائيل بأنها تتكون من شعب يهودي واثق من نفسه، ويميل دوماً للسيطرة على من هم حوله، ومنع توريد السلاح الفرنسي لطرفي الحرب، واجه واحدة من أكبر وأشرس الحملات السياسية والإعلامية في أوروبا والاتهام المعتاد بــ«معاداة السامية».
بعد كل هذه العقود الطويلة من رواج وهيمنة صورة ورواية «إسرائيل المضطهدة» و«اليهود الضحية»، أتت محاكمة العدل الدولية في لاهاي لكي ترسم وتروي الصورة والرواية الحقيقيتين.
للمرة الأولى في تاريخ العالم الحديث تمثل «دولة المضطهدين الضحية» أمام السلطة القضائية الأعلى في العالم، لتحاكم باعتبارها الجاني والفاعل للجريمة الأكبر التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، وهي «الإبادة الجماعية»، والتي كانت دوماً هي أساس الصورة والرواية الإسرائيلية لإنشاء الدولة والتوسع والاحتلال بعدها طوال ثمانية عقود.
مجرد مثول إسرائيل أمام هذه المحكمة السامية متهمة بهذه التهمة الفادحة الفاضحة، كان كفيلاً – وسيستمر – في بدء تداعي وتحطم هائل على جانبين: بداخل إسرائيل، زلزال مدمر بالوعي الشعبي والرسمي، الذي ظل طوال عقود مطمئناً إلى ثبات واستمرار صورة ورواية «الضحية المضطهدة» لدى كل العالم، وبالتالي ثبات واستمرار دعمه المادي والمعنوي لها.
وأضيف هذا الزلزال داخل إسرائيل إلى الزلزال الأول الذي أحدثه هجوم السابع من أكتوبر، والذي أطاح بمفهوم الدولة الآمنة بقوة جيشها وأجهزتها الأمنية، لكي يصاب الوعي الجمعي الإسرائيلي بشروخ عميقة للغاية، يبدو أن حصيلتها ونتائجها النهائية على كيان الدولة والمجتمع لن تتأخر كثيراً.
أما خارج إسرائيل، فقد راحت، وبسرعة شديدة، صورة ورواية «الضحية المضطهدة» تتحطم في الأوساط الشعبية والنخبوية والرسمية الغربية، فاتحة طريقاً جديداً معاكساً على ما يبدو لما سار عليه الغرب طوال ثمانية عقود مضت من الدعم غير المحدود ولا المشروط لإسرائيل الدولة «الضحية المضطهدة».
ولا شك أن صدور أحكام محكمة العدل الدولية في الإجراءات العاجلة وفي موضوع الاتهام، سيكون نقطة فاصلة في تكثيف وتعظيم تلك التداعيات المتوقعة على الجانبين الإسرائيلي والغربي.