استلمت اليوم مفتاح شقتي، بعد اجتيازي سلسلة من الاختبارات التي استمرت لمدة عام كامل. وبعد ذلك الاستقصاء الممل والجدال الطويل لمدة، حقيقة، لا يستوعبها العقل ولا يدركها المنطق، وخاصة مع تلك الدراسات وذلك التحري الذي يتمحور حول عنوان واحد: «من أنت؟».
يشعرك أحياناً كل هذا الزخم والاهتمام وكأنه بلاط ملكي وليس مجرد شقة في ذلك المبنى العتيق، وعلى الرغم من هذا سايرتهم وكنت أصغي إليهم وأستمع، وما إن يبدأ بركان غضبي يثور حتى يتسلل عاشق الكبرياء إلى داخلي يحدثني بصوت خافت: هون عليك، ما عساه أن يكون! خطوات بسيطة، وسينتهي كل شيء.. وهكذا.
وبينما أكون في حديث ودّي على طاولة عاشق الكبرياء سرعان ما يتسلل إلى داخلي ويلبسني جلباب السكينة ورداء الطمأنينة يملأني هكذا بهدوء لا يوصف!
سألتهم بعد ذلك البركان، لماذا كل هذه الإجراءات الطويلة؟ قال، بعد ضحكة طويلة أثارت معها استفزازي من جديد: اسمع أيها الصبي، أنا أحد أعضاء هذا المبنى، هذه الإجراءات تتبع فقط عندما يكون الساكن جديداً على المبنى أو على المنطقة. يحدث هذا النوع من الضجيج. أعلم أن هذه الإجراءات تثقل كاهلك، وبعض منها قد لا يقبلها ولا يستوعبها العقل، وتتمنى بين لحظة وأخرى أن تسعر بثمن تعويض معين عنها وينتهي هذا الروتين الممل. لا تتعجب يا صغيري من هذا الروتين، فعمر هذا المبنى يتجاوز القرون، هل ترى روعة المعمار الفرنسي؟ هذا النوع من الفن مطبق بأسلوب فن العمارة الفرنسية المطبق في قصر فرساي الشهير، حيث اشتهر هذا المبنى بالفن الكلاسيكي الفرنسي المميز بذوق رفيع لا مثيل له. هذا ضمن ما يميز هذا المبنى، وهناك أيضاً أسباب أخرى بعيدة عن المادة يحتفظ بها كل واحد من أصحابه لنفسه.
لا عليك، انتهينا من الشطر الأول، أما عن الشطر الثاني فستنتظر قليلاً، سيبدأ حالاً. بادرت: وهل لي أن أعلم ما مضمون الشطر الثاني؟ فرد: بكل تأكيد سيكون نقاشك مع أصحاب المبنى، ستجيب عن سؤال واحد فقط. لا يتوقف الموضوع عند هذا الحد، بل ستستمر عملية البحث لمدة لا تقل عن سنة ميلادية.
بدأ شعور باليأس يتسلل إلى داخلي، فأصحاب المبنى لا ينظرون لساكنه من الناحية المادية وإنما يتطلب الأمر منه إدراج سيرته الذاتية وتاريخ حياته، فمن ضمن الإجراءات الروتينية ألا يورث أي جزء من أجزاء المبنى، ولا يحق للورثة استلام أي شقة من الشقق، وإنما ترجع ملكيتها لأصحاب المبنى، وتعرض ضمن سلسلة من الإجراءات الرسمية الطويلة. والغريب في الأمر أنك إن اجتزت جميع المراحل الأولى بنجاح فسيبقى أمامك أهم جزء وهو الإجابة عن سؤال واحد، وهذه الجزئية من أهم إجراءات هذا المبنى، إذ عليك أن تملك الثقة الكاملة للإجابة عن سؤال حاسم، ألا وهو: «من أنت لكي تكون من سكان هذا المبنى؟».
أثار أمر هذا المبنى دهشتي، وأثار حيرتي واستغرابي، انتهى الجزء الأول بعد سلسلة من الإجراءات، وبقي الجزء الأخير الذي هو عرض الملف على السكان الأصليين، وهم أعضاء هيئة المبنى، كل منهم يحمل في جعبته الكثير من الدراسات والأبحاث، لما انطوت عليه مسيرتهم من خبرات وتجارب حياتية مشرفة، بحيث لا يسكن هذا المبنى إلا ذوو الأفعال المشرفة والخالدة.
وهناك أيضاً أمر آخر مما لفت انتباهي، تشكيلة أعضاء المبنى، حيث كان بعضهم كبير السن، وعدد لا بأس به من صغار السن، وعدد آخر من الأصدقاء والأقارب الموثوق بهم ممن لهم تاريخ من الإنجازات في المنطقة. وألح مبعث الفضول الذي كان يقتلني: لماذا هذا المعيار، لا تكلفة مادية لاقتنائك الشقة وإنما ما ينظر إليه هو تكوينك العلمي والإنساني؟ لا أخفيكم سراً بأن هذه الفكرة أثارت إعجابي، لما فيها من مميزات مختلفة، فكرة النظر إليك من زاوية رصيد حياتك العلمي والإنساني. وللمرة الأولى أرى قيمة لشيء عظيم وعريق بعيداً عن الماديات، وقد شعرت حينها بأن تقويم المبنى ظل متوقفاً في ذلك الزمن الجميل! وهو أحد أسباب تمسكي بهذا المكان.
نشعر أحياناً وكأن كل واحد منا في يده عصا الجولف يلوح بها على مبتغاه، دون أن يعي ما الفائدة الأساسية من هذه العصا، وما إن تتضح لنا الصورة وتستوعبها عقولنا، ونعرف ما قانونها الذي سنت من أجله هذه اللعبة، حتى نضع خطواتنا الأساسية التي من خلالها يمكننا الانطلاق، وبها نحدد النقطة التي ينبغي علينا أن نتوقف فيها، إذ إن حياتنا البشرية تكاد لا تختلف كثيراً عن لعبة الجولف، فكل واحد منا ينشد مبتغاه وله من الرغبات ما يسعى لتحقيقه، وذلك باتباعنا بعض الأسس التي قد تكون أحد خيارين لا ثالث لهما: إما بوجه أول: وهو عبارة عن قوانين تشريعية من عند الله سبحانه وتعالى، وإما بوجه ثانٍ وهو عبارة عن قانون من صنع البشر.