تسعة وسبعون عاماً مرت على انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي كانت السبب المباشر في اقتراح وصياغة «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»، بعدما شهدته من مذابح جماعية، قام بها النظام النازي لمجموعات بشرية متنوعة، منها الغجر والبولنديون والمدنيون والأسرى السوفييتيون والمعاقون والصرب، وبالطبع اليهود عبر مختلف بلدان أوروبا.

وبعد مرور ستة وسبعين عاماً على بدء التوقيع والتصديق على هذه الاتفاقية وجد العالم نفسه أمام تطبيقها في محكمة العدل الدولية ضد «الدولة اليهودية»، كما أسماها تيودور هيرتزل في كتابه الشهير عام 1896، متهمة وليس ضحية بالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة.

إسرائيل هي الدولة التي كانت جرائم الإبادة في حق من أنشأوها من يهود أوروبا، أحد أبرز أسباب دعم قيامها من مختلف حكومات ونخب القارة العجوز، ومعهم الولايات المتحدة الأمريكية، تعويضاً لهم عما جرى لهم على يد النازي، وشعوراً بالذنب تجاههم.

وأن تتهم نفس هذه الدولة، وتمثل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، هي الضربة الأكثر إيلاماً وعمقاً لوعي مجتمع «الدولة اليهودية» منذ قيامها، وكذلك للمجتمع الغربي والأوروبي خصوصاً، فللمرة الأولى في التاريخ اليهودي الحديث وخصوصاً منذ قيام إسرائيل يجد سكانها من اليهود أنفسهم في موضع الجاني وليس موضع الضحية، الذي قام وعيهم وتوازنهم النفسي عليه.

من هنا يظهر هذا المدى الواسع والعميق للارتباك والاهتزاز، الذي أصاب وعي المجتمع والنخبة اليهوديين في إسرائيل، وانعكاس هذا في حالة التطرف والعدوانية الشديدين تجاه «الأغيار»، خصوصاً الفلسطينيين، وحتى تجاه جنوب أفريقيا التي وجهت لهم الاتهام، ومحكمة العدل الدولية، التي جرؤت على قبوله مبدئياً، والنظر في البت فيه.

أما على صعيد المجتمع الغربي عموماً بشقيه الأوروبي والأمريكي فقد كان الاتهام والإحالة ثم قرارات محكمة العدل الدولية هي الهزة الأكثر عمقاً وشدة، بعد هزة الجرائم النازية بالمذابح والإبادة الجماعية قبل خمسة وثمانين عاماً، فالنظر إلى «الدولة اليهودية» طوال عمرها الممتد منذ عام 1948 ظل أسيراً لعقدة ما فعلته النازية– الألمانية– الأوروبية باليهود من محارق ومذابح، وظلت إسرائيل تتمتع طوال هذه السنوات بالدعم والتأييد باعتبارها دولة «الضحايا المضطهدين»، وليست دولة «الجناة» مرتكبي جرم الإبادة الجماعية الأعظم.

كل تلك التطورات والتأثيرات، التي بدأت لتوها في الاصطدام بداخل إسرائيل وفي المجتمعات الغربية، أوروبية وأمريكية، بالوعي العام ومرتكزاته التي استقرت لعشرات السنين، سيكون لها بدون شك تداعياتها العملية على مجريات الأمور على الجانبين، سواء فيما يخص الحكومات والأنظمة أو ما يتعلق بالشعوب، ومختلف النخب فيهما.

وعلى الأرجح فإن تعمق وسرعة ردود الأفعال والمواقف لن يتأخر كثيراً، وسيكون مرتبطاً مباشرة بالقرارات الأخرى والأحكام، التي ستصدرها محكمة العدل الدولية في مدى تورط «الدولة اليهودية» في الجرائم الجماعية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في غزة، وحينها سيشهد العالم الغربي كله مسارات تجاه هذه الدولة وسكانها، لم يعرفها قط طوال سنواتها الخمس والسبعين.

وحتى يتضح لنا أكثر ما يجري في داخل المحكمة الدولية من نظر الاتهام الخطير نشير هنا إلى المادة الثانية من الاتفاقية المشار إليها، حيث تنص على:

في هذه الاتفاقية تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:

(أ) قتل أعضاء من الجماعة.

(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.

(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

وتعاقب المادة الثالثة من الاتفاقية كل من ارتكب جريمة الإبادة الجماعية، أو تآمر لارتكابها، أو من حرض على ارتكابها مباشرة وعلناً، أو من حاول ارتكابها، أو من اشترك في هذا الارتكاب، على أن يشمل العقاب أياً من هؤلاء سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو أفراداً، بحسب نص المادة الرابعة من الاتفاقية.