أطبقت المياه على عنقي، تقدمت حتى طوَّقت بكفيها وجهي، تسللت إلى عنقي ثم دفنت أوراقها في أعماق صدري، ثم فكرت إن كان هناك شيء ما أود أن أقوله، فلم أجد رغبة في نقاش أصم. اكتفيت ببلاغة الصمت الجميل، بعد أن غرقت الكلمات في صدري بين تيارات متعاكسة لا وجه لها، تارة أحكم قبضتها وتارة أرأف لحالها. وكما يقول المازني في حديث ودي بينه وبين رمال الصحراء، وهو يملك قمة الإبداع في رصد الأحداث بوقائع غريبة، يسجل في طياتها ويتغلغل بين سطورها متعة الخيال، تأخذك إلى عالم يشبه الواقع!
لقد كتب: «تقول لي الرمال وأنا أقتلع منها رجلي اقتلاعاً إذ أخبط في الصحراء والريح تجذب أطراف الرداء وتقول: بودي لو تماسكت حياتي، وثبتت ذراتي، ولانت مواطئ لقدميك، ولكن مثلك لا حيلة لي، قضى به... ليتني أستطيع أن أسدد خطاك، وأنير لك الطريق الذي تقوست فيه قدماك»!هكذا أنا عندما تهبُّ بي عواصف الزمان كالمجنونة، وتخيّم على صدري، أبتعد عنها وعن ضجيج الحياة بآية كريمة لطالما جلست متأملاً مفرداتها.. يقول الله تعالى: (وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ). «آل عمران-101». فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو الوسيلة الأولى الموصلة إلى الرشاد وطريق السداد.
أنا محدثكم، اليوم أتممت عامي العشرين، توجهت عبر عاصفة رعدية، وأنا أجدف بقارب صغير أبعدني عن مسقط رأسي، حشرت في زاوية صغيرة من ذاك القارب رغم ضخامة المبلغ الذي دفعته، ومع توصية كبيرة من أحد الصيادين الذي كان يقول لي: لقد أسديت لي معروفاً ذات مرة، ولا أخفيكم سراً أنني ما زلت مندهشاً، ولا أذكر ما هو هذا المعروف، ولكن لا أنكر أنني استفدت من ذلك المجهول الذي يدعى المعروف، متى كان، وأين؟ لا أذكر!!
أبحر القارب بنا بعد أن أسدل الليل ستاره، وخيَّم علينا كجلباب رجل عجوز يخشى علينا من البرد القارس في ذلك الظلام الدامس! تكاد لا ترى فيه سوى مصباح النجوم تُضيء عليك من بعيد كالقناديل، تزين السماء وتنير البحار بانعكاسها على طول البحار. وضعت قطعة من القماش أسفل رأسي وعيناي على حديثها، وكأن كل واحدة منهما تروي لي قصصاً من عالمها، وبينما كانت عيناي تجوبان عالمها وقعت مقلتاي على إحداهما تنير من بعيد وكأنها كواكب منفردة، تقيم لنفسها عرشاً وتجمع النجوم الصغيرة من حولها كتاج الأميرات، تقيم لنفسها مخدعاً وتنطوي على نفسها بخجل جميل لا يوصف. أشعرتني بدفء الكواكب من حولي، وعلى رغم أن بريقها يضيء في السماء فقد كانت كالكوكب القريب مني! انطلق وجهي منبسطاً ولم يراودني خوف ورهبة تصارع الأمواج، وأثناء ذاك الحديث لاحظت أعين الجميع تغطُّ في سباتٍ عميق عدا عينيّ، ومع ذلك تعمقت في حديث رائع مع ذات التاج، سمعت همسها وهي تقول: أيها الحياة راقصيني، خذي بيدي وعانقيني، تأملي ما تركته خلفي، وسرت أضرب الأرض بقدميّ، هذا التراب أعرفه موطن أجدادي، طحنوا التراب ليصنعوا منه سلالم يصعدون عليها، على رغم تمردكِ! ومن يومها أخذتُها عبرة، كل ما تملكين أعدهُ ذهباً رخيصاً، وهذا التمرد سأصنع منه سلالم أصعد بها، وصوتكِ سأحبسهُ في زجاجة وأغلقها بفلّين لا يفتح وأرميه بعيداً.. أنت أهداف ومَرْمَى لسِهَامِي، فضجيجك لا صوت له!! عناقك لا يهمني، لأنه لا يكفيني، أعشق وأحب وأخاف من تلك اليد التي تخضعين لها، أعشق عناقه، وأعشق بأن أنضوي تحت جلبابه.
«سبحان ربي العظيم»
وبضحكة هِسْتيريَّة أبعدتني عن الخيال وأعدتني بهدوء إلى الواقع، فتذكرت حديث المازني مع الصحراء، فتحت عينيّ وإذا بشروقٍ جميل يعانقني: «أي عناق تعشق دفء الشمس أم ضياء الليل الخافت»؟