تعلمت كيف أسابق الزمن، على رغم أنني لا أعشق وتيرة السباق، باستثناء الشعور الخاص عندما أضع اللجام على ذلك السرج، وبطرف أصابعي أحكم وثاقه وأحكم قبضته، وأطلق العنان لذلك الرسن وتلك الشكيمة، وفي كثير من الأحيان دون اللجام، أو عروة توثق أطرافها، وتحبس خطواتها. فرس لعوب، تتراقص بشعرها وجمال عنقها على مبتغاها، ويداي بمحاذاة خطواتها، وقلبي يخفق بسرعة دقات قلبها. لا أشعر بعدد الأميال التي نتجاوزها، تجري وعيناها إلى الأمام، في عدْو متواصل بين الخبب والإحضار، لا شيء يوحي لك بأنها تسابق الزمن، وإن وصلت في عدوها إلى مرحلة الإهماج، وهو قصارى جهد الفرس. عند ذلك المنعطف، تتوقف في أقصى تلك الرابية، على يمين ذاك الجبل المطل على أجمل بحار العالم.
أنا وفرسي الجموح، علاقة وطيدة تجمعنا، وذكريات بيننا لا تحصى، أعشق كبرياءها وشموخها، تشعرني أحياناً وكأنها شمخرة امرأة، وطموح وكبرياء أميرة، تسمع أنينك من غير كلال، وتحتويك بحب وحنان، تلملم صفحات كتابك بعد بعثرتها.
هذه ذكرياتي مع أميرتي العيناء، طويت صفحاتها وضعتها جانباً. أخذت معطفي الذي تركته معلقاً مساء أمس في الجانب الأيسر للنافذة، بعد أن تجمد، وكأن قد أصابه الصقيع، دفنت أطرافي بداخله، وتوجهت نحو مكاني المعتاد، ذلك المقهى الذي يقع في زاوية المدينة، على رغم تأخر الوقت آنذاك. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً، ولكن صديقتي العجوز الجميلة، صاحبة المقهى، اعتادت على هذا المنوال، خصيصاً عند بداية رواية جديدة. جلست على طاولتي المستديرة في منتصف المقهى المطل على الشارع الرئيس للمدينة. وقبل أن أجلس دخلت في معمعة ضجيج العابرين، في خضمها وهيجانها.
لا أنكر أنني أعشق الهدوء، ولكن في كثير من الأحيان أحب أن أتأمل ضجيج العابرين، ضحكاتهم، وغناءهم، ورقصاتهم. أحب دائماً مشاركتهم أفراحهم. هكذا أبعثر صفحات كتابي، وأستعيد نشاطي.
وبينما كنت منغمساً في لحظة التأمل التي كنت أعيشها، تقدمت العجوز وفي يديها فنجان من القهوة، ما زلت أذكر عبقها، ما زال يداعبني، يعانقني، يبعدني عن الواقع، وكأنني أسافر عبر رائحتها إلى أميال لا حدود لها. أغمضت عيني مكتفياً بسماع تلك السمفونية. يا لها من معزوفات لا توصف، أطلقت عليها اسم صوت السعادة «صوت الموسيقى، صوت الأمطار، ورقصات دخان متصاعدة من فنجاني». احتويته بيدي وجلست دون أن أرتشف منه شيئاً، مغمض العينين، حبيس تلك السمفونية، دون أن أحرك ساكناً.
هناك دائماً من يزعج سكينتي، تقدمت العجوز وجلست أمامي، أخذت فنجاني واستبدلته بواحد آخر، وهكذا بصوتها الذي يعكس جمالها الطبيعي، قالت: إلى متى تدفع ثمن شيء لا تشربه؟
ابتسمت لها: الوقت متأخر! قالت: نعم، إذن نحن في مطلع رواية جديدة؟
قلت لها: نعم.
ابتسمت وهي تضع معطفها على كتفيها، وبصوت يرتعد من شدة البرد، حدثني عنها، تأملت عيني العجوز التي تعطيك تصوراً عن جمالها في عمر ما.
بدأت أسرد لها بعضاً من تفاصيل الرواية، وقلت لها: تقول الرواية يا جميلتي.. ضحكت بصوت خافت، مع ابتسامة خجل رسمت على وجهها، وذاك الشعر الأشقر المبيض، الذي يتمرد على عينيها: أنا! هل تراني جميلة؟
قلت لها: نعم، وبكل تأكيد.
ابتسمت، وقالت: أشكرك على الإطراء الجميل، إذن خذني معك إلى تفاصيلها.. ماذا تقول؟
روايتي تتحدث عن فرس جموح ذات لون وطباع نادرة، فرس عربية أصيلة، تنحدر من سلالات نادرة قوية وسريعة، تارة عنيفة ومتقلبة الأحوال، وتارة أخرى مختلفة، لك أن تتمتع بجمالها من بعيد، وتتركها تلعب على مبتغاها. هنا، في هذا المبنى العتيق، ولدت فرس جميلة، لها جمال لا يوصف، شعرها الأسود المسترسل بين عنقها وعينيها الخادرتين. أعشق تمايلها ورقصها على أنغام الموسيقى، تأخذك إلى عالم مليء بالجمال الفطري. لها عينان كما يقول المتنبي: من الليل باقٍ بين عينيه كوكب. أطبقت جفنيّ مسترسلاً في وصفها، وكأنني بين غفوة وصحوة، أو كما تغفو الشجرة، وتتدلى أغصانها. على تلك طاولة، كدت أغفو وأنا أسرد رواية لم أبحر بها بعد، حتى أيقظني صوت العجوز: يا صغيري، هل هذه أوصاف فرس أم أوصاف حسناء؟ تشابكت خيوطي، ولم أستوعب مداخلها؟ أخذت معطفي وأنا على الباب، وقلت لها: وهل هناك فرق؟.