بدأت علاقة مصر الحديثة بالقارة الأفريقية، منذ أن حدد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو 1952، التي أسست الجمهورية في مصر، كتابه الصغير «فلسفة الثورة» عام 1953. ففي هذا الكتيب، وضع عبد الناصر دوائر ثلاث لانتماء مصر، ومن ثم لسياساتها الخارجية، وهي الدائرة العربية، ثم الدائرة الأفريقية، ثم الدائرة الإسلامية. وخلال السنوات السبعين التي تلت هذا التحديد، تفاوت اهتمام الحكم في مصر بالقارة السمراء، وإن ظلت طوال الوقت تحتل حيزاً مهماً في السياسة الخارجية المصرية.
وخلال السنوات العشر الأخيرة، ركزت الدولة المصرية على الدائرة الأفريقية، وبصورة مكثفة غير مسبوقة في العقود الأربعة السابقة عليها. وقد بدأت هذه السنوات بوضع انتماءات مصر الأساسية في مقدم دستورها الذي صدر عام 2014، حيث نصت مادته الأولى، على أن «الشعب المصري جزء من الأمة العربية، يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي، تنتمى إلى القارة الأفريقية، وتعتز بامتدادها الآسيوي، وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية». أصبحت أفريقيا بهذا، «التزاماً دستورياً»، يجب الوفاء به، وبالطبع، بجوار الالتزامين العربي والإسلامي، وبقيت بذلك ثابتة الدوائر الثلاث التي نصت عليها «فلسفة الثورة»، كما هي، فقط مع تغيير في ترتيب الدائرتين الثانية والثالثة.
وخلال نفس هذه السنوات العشر، مارست مصر كل أشكال التواصل مع القارة السمراء، دولاً وأقاليم واتحاداً، سياسية واقتصادية، وتجارية، ومالية، وثقافية.. وغيرها. وتواصل الدور المصري النشط من أجل القارة الأفريقية، من خلال قيام مصر بوزنها الإقليمي والدولي، بالدفاع عن مصالح القارة وحقوق شعوبها على الصعيد العالمي، وفي المحافل الدولية المختلفة، وداخل المنظمات المتخصصة، لإقرار حقوق شعوب القارة في التنمية والأمن والسلام والتقدم والحماية من آثار التغيرات المناخية، ومن آثار التقلبات السياسية والصراعات العالمية التي تؤثر فيها من حين لآخر.
وكانت مصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قد قدمت لأفريقيا ومجتمعاتها وقواها الحية، نموذج دولة التحرر الوطني من قوى الاستعمار الحاصلة على استقلالها، والساعية دوماً إلى تحرير شقيقاتها الأفريقيات، وهو ما أفرد لها مكانة رائدة متميزة في القارة كلها. وفي السنوات العشر الأخيرة، قدمت مصر لقارتها نموذجاً آخر للدولة القادرة على تخطي عقبات خطيرة، كادت أن تودي بها. بدت مصر نموذجاً مبهراً في إرادة الشعب المصري في التخلص من الفوضى وعدم الاستقرار، وتحقيق الأمن والاستقرار السياسي، وإعادة تثبيت أركان الدولة وبناء المؤسسات. وبدت مصر أيضاً نموذجاً رائداً لشقيقاتها الأفريقيات، في مكافحة الإرهاب ومواجهته، والتخلص منه وكسر شوكته، بفضل تضحيات وجهود كل أجهزة الدولة المصرية، وتضامن الشعب وتلاحمه مع قيادته.
وواصلت مصر الوجه الثالث المضيء لنموذجها، وهو الخطوات الهائلة التي سارتها نحو إعادة البناء الاقتصادي للبلاد، وبناها التحتية، ومرافقها الرئيسة، والتوسع الزراعي والعمراني الهائل، ثم البدء بإقدام على الإصلاح الاقتصادي، الذي لا غنى عنه للمستقبل، والذي ترافق مع جهوده التنموية الشاملة، الاهتمام بالفئات الشعبية الأولى، بالحماية بكل ما تملكه الدولة من موارد.
وخلال العامين الأخيرين، سعت مصر لتقديم وجه رابع لنموذجها، وهو «تجديد الحياة السياسية»، من خلال فتح حوار وطني واسع وشامل وعلني، حول أولويات العمل الوطني، دعا إليه رئيسها عبد الفتاح السيسي، وهي الدعوة التي لقيت استجابة واسعة من كل التيارات السياسية التي تؤمن بالدولة، وتثق في دستورها ومؤسساتها، حيث تبلور موقف وطني جامع، على أن هذا الحوار هو الطريق للتجديد في الحياة السياسية لبناء «الجمهورية الجديدة»، التي يتطلع لها الجميع، ويشهد فيها مستقبل مصر دوراً لجميع أبنائها، دولة قوية قادرة مدنية ديمقراطية ناهضة، تسير إلى المستقبل بخطوات ثابتة.
هكذا هي مصر بالنسبة لدائرتها الأفريقية، منذ أن أعلنتها واحدة من دوائر انتمائها، قبل أكثر من سبعين عاماً، وهذه هي الوجوه الأربعة للنموذج المصري الذي تقدمه لشقيقاتها الأفريقيات، في ظل الأوضاع التي تعاني منها الكثير من الدول والشعوب الأفريقية، والتي تمر بمراحل انتقالية، تتطلب المضي قدماً في طريق المستقبل والتنمية، عبر كل أو بعض هذه الوجوه الأربعة.