لا تحسدوا أوروبا كثيراً

الكثير من مواطني العالم الثالث والمنطقة العربية والشرق الأوسط وأفريقيا دائماً ما يحسدون أوروبا على وحدتها واتحادها، وتقدمها ومستوى المعيشة فيها،

والمؤكد أن أوروبا أنجزت الكثير، وحققت تقدماً وتنمية مشهودة، تتيح لأغلبية مواطنيها مستوى مرتفعاً من المعيشة، لكن الصورة ليست وردية كما يبدو من الوهلة الأولى، وهناك الكثير من الألوان الرمادية والسوداء، التي تقلق العديد من الأوروبيين.

أكتب عن هذه النقطة من موقع شاهد العيان، وليس المتحدث في الفراغ النظري.

زرت بروكسل عاصمة بلجيكا، ومقر الاتحاد الأوروبي حلف شمال الأطلسي «الناتو» مرتين في الشهور الأخيرة. الأولى في نهاية شهر نوفمبر الماضي لحضور وتغطية ومتابعة وزراء خارجية حلف الناتو، والثانية في نهاية شهر يناير الماضي لحضور اجتماعات وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي مع وزراء خارجية مصر والإمارات والسعودية والأردن وفلسطين وإسرائيل بصورة منفصلة، ومفاوضات اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين مصر، والاتحاد الأوروبي. وخلال الزيارتين قابلت العديد من المسؤولين والمتابعين والمراقبين، وخرجت بانطباع أن عوامل القلق التي تساور الأوروبيين أكبر بكثير من عوامل الارتياح، والاطمئنان على مستقبل هذه القارة.

كثير ممن التقيتهم يقولون: «إن أغلبية الأوروبيين كانوا يظنون أنهم وصلوا إلى قمة ما يحلمون به من تماسك الاتحاد، وتمكن أغلبية الدول من بلورة ما يسمى بـ«الإجماع الأوروبي»، لكن كابوس الأزمة الروسية- الأوكرانية عصفت بكل شيء، وجعلتهم يعيدون معظم- إن لم يكن كل- حساباتهم».

نتذكر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان قد سعى مراراً وتكراراً لتكوين جيش أوروبي موحد، وحاول إقناع الدولة الكبرى وهي ألمانيا بالفكرة. وقتها كانت برلين في عهد المستشارة إنجيلا ميركل تقيم أفضل العلاقات السياسية والاقتصادية مع روسيا البوتينية، وفى اللحظة التي دخلت فيها القوات الروسية الأراضي الأوكرانية في 22 فبراير 2022 اكتشفت أوروبا أنها غير قادرة على حماية حدودها واستقلالها، وهنا لم تجد مفراً من التسليم بكل ما تطلبه واشنطن من تسديد كامل فواتير الاعتماد على الحماية الأمريكية من الدب الروسي، لكن شروط واشنطن كانت قاسية، وهى ضرورة قطع كل الصلات مع موسكو من أول التعاون في المجالات الرياضية والفنية نهاية بالحبوب والبترول والغاز.

واشنطن طلبت من أوروبا أن تدفع الفاتورة كاملة، وتعتمد على الطاقة الأمريكية بدلاً من الروسية، وعلى السلاح الأمريكي، إضافة إلى ضرورة المساهمة الفعالة في تمويل التصدي الأوكراني للقوات الروسية.

قبل أزمة أوكرانيا كانت أوروبا قد دفعت ثمناً باهظاً، بسبب تداعيات فيروس كورونا، وطباعة أكثر من 4 تريليونات يورو، لمواجهة فترات الإغلاق، والنتيجة لكل من أزمتي كورونا وأوكرانيا هو مزيد من التضخم، وارتفاع الأسعار بصورة لم يشهدها الأوروبيون، ربما منذ بداية التوحد.

المشكلة الثالثة هي أن وجود 27 دولة داخل الاتحاد الأوروبي يعنى وجود 27 قراراً ورأياً واتجاهاً، وليس رأياً واحداً موحداً كما يعتقد كثيرون، والدليل أن دولة واحدة مثل المجر تسببت في عرقلة الإجماع أكثر من مرة سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي.

المشكلات الاقتصادية إضافة لمشكلات أخرى مثل التغيرات المناخية قادت إلى تصاعد المد اليميني المتطرف داخل الدول الأوروبية، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى أزمات لا يمكن تخيلها حتى لدى أكثر أعداء أوروبا تشاؤماً.