وضعت التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، إثر اندلاع الحرب بين «حماس» وإسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، العراق، على غرار دول عربية أخرى في المنطقة، في قلب تداعيات خطيرة. فمنذ تفجّر هذا الصراع الدموي الذي وقفت الولايات المتحدة طرفاً منحازاً فيه، باتت السفارة الأمريكية في بغداد، وأيضاً قواعد التحالف الدولي بقيادة واشنطن في عموم العراق، هدفاً لهجمات متكررة من فصائل مسلحة تابعة لـ «الحشد الشعبي»، وسط صيحات متعالية مطالبة بخروج القوات الأمريكية.
فهل العراق بحاجة لبقاء قوات التحالف الدولي، الذي تتزعمه الولايات المتحدة، أم أن مبررات بقائها قد انتفت بهزيمة «داعش» في ديسمبر 2017؟. هذا سؤال يصعب الإجابة عنه، فرغم الطبيعة الأمنية للوجود العسكري الأمريكي، إلا أنه لا يخلو من أبعاد سياسية تتعدد وتتنوع إشكاليات دوره في العراق، وفي عموم المنطقة، حاضراً ومستقبلاً.
هذا ملف فائق التعقيد، لا يمكن فتحه والتمعن في كل أوراقه، بدءاً بعام 2003، عام احتلال العراق، ومروراً بصفحاته الدامية، وهو يتنقل بين أيادي أربعة رؤساء أمريكيين، وأيادي ستة رؤساء وزارات عراقيين، ووصوله أخيراً إلى أيادي أعضاء مجلس النواب العراقي، دون الأخذ بما لدى الطرفين، العراقي والأمريكي، ما يقولانه.
الطرف العراقي يقدم القضايا التي تخص الأمن القومي العراقي على غيرها من القضايا، أما بالنسبة للطرف الأمريكي، فهو يرى أن بقاءه يتجاوز مهامه الأمنية في العراق، إلى مهام أوسع في عموم الشرق الأوسط، من منطلق أن استقرار المنطقة ذو أهمية خاصة لأمن المصالح الأمريكية.
يشغل الوجود العسكري الأمريكي في العراق بعض أوساطه السياسية، بين رافض مستنكر، وبين متقبل مرحب، وسط أغلبية ليس لها ما تقوله، فقد بقي هذا الملف يراوح بين شد وجذب لدى بعض الفصائل المسلحة المنضوية تحت راية «الحشد الشعبي»، منذ صدر قرار مجلس النواب بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي، إثر مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في 2020.
الموضوع قد خرج الآن عن مجرد إبداء رأي حول بقاء هذه القوات من عدمه، بعد قرار رئيس الوزراء العراقي بإنهاء هذا الوجود، فقد انطلقت محادثات ثنائية مطلع يناير المنصرم، في إطار لجنة عسكرية عليا مشتركة، لوضع جدول زمني لخفض تدريجي للوجود العسكري الأمريكي، علماً بأنه لم يصدر عن الجانب الأمريكي أية إشارة عن الانسحاب.
هناك انقسام واضح في موقف الأوساط السياسية من الوجود العسكري الأمريكي في العراق، فالأكراد لهم موقف ثابت من القوات الأمريكية، فقد كانوا، وما زالوا، أبرز حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، منذ تعهدت بتوفير الحماية لهم في 1991، حين فرضت الحظر الجوي على مناطقهم شمال خط العرض 36. أما المكونات الأخرى، فقد تبادلت المواقع، منها من تغير من موقف معادٍ يحمل السلاح، إلى موقف لا يرى ضرورة لرحيل هذه القوات، طالما أن بقاءها يفرض قدراً من التوازن السياسي والأمني، العراق أحوج ما يكون إليه، في ضوء التعقيدات الإقليمية القائمة. من جانب آخر، هناك كتل سياسية تحالفت مع الوجود الأمريكي منذ 2003، وباتت منقسمة، وبعض فصائلها المسلحة تضغط على رئيس الوزراء، بغية تحقيق الانسحاب.
في جلسة مجلس النواب في العاشر من فبراير 2023، لمناقشة مشروع إصدار قرار بإخراج قوات التحالف الدولي، تغيبت بعض الكتل، حيث عجز المجلس عن تحقيق النصاب القانوني لعقد الجلسة التي اعتبرت تداولية.
لا يوجد إجماع وطني حول قضية كهذه، وهذا مثال صريح على عمق حالة التوجس التي تسود الوسط السياسي العراقي، بين قادة المكونات الشريكة في العملية السياسية، فهذه الانقسامات لا شك ستنتج فرقة أوسع، تترجم سياسياً إلى المزيد من التصعيد في حدة المواقف. فالإطار التنسيقي الحاكم، يتجه نحو تهميش المكونات الأخرى، وهناك مؤشرات عديدة على ذلك، عبر تجاهل تنفيذ ما تم الاتفاق عليه عشية تشكيل حكومة السوداني، بما يضمن الاستمرار بالأخذ بمبدأ «التوازن والتوافق والشراكة»، الذي بني عليه النظام السياسي الجديد في العراق من جهة، وتصاعد الخلافات مع إقليم كردستان، خصوصاً بعد القرارات التي اتخذتها المحكمة الاتحادية في الحادي والعشرين من فبراير المنصرم، والتي فسرها الإقليم بأنها تستهدف وجوده من جهة أخرى.