منذ بدء الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة، والمأساة الإنسانية الأكبر والأسوأ التي يعيشها سكانه، هي الهم الأول لكل الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية حول العالم. وبدا واضحاً للجميع أن حكومة اليمين المتطرف الديني الإسرائيلية، لا تسعى فقط لقتل الفلسطينيين في غزة ولا التدمير الشامل لكل ما بها من بنية تحتية وعمران، بل أنها تسعى بكل مراحل العدوان وإجراءات الحصار، لخلق حالة «مجاعة» حقيقية لأهل القطاع، وهو ما وصلنا إليه بالفعل باعتراف وتحذير وتنديد كل الجهات الأممية والحقوقية من مختلف جهات العالم، حيث أصبحت غزة هي المكان الأكثر جوعاً ومرضاً وتدميراً من بين كل مناطق العالم.
ومنذ بدء هذه الجريمة – المأساة، لم تتوقف نداءات دول العالم ومنظماته الأممية للحكومة الإسرائيلية، من أجل السماح للمساعدات الإنسانية، بالدخول لسكانه بما يقيهم شر المجاعة والأوبئة الآخذة في الانتشار. ومنذ البدء أيضاً، لم يكن هناك من طريق لدخول ما يمكن نفاذه من المساعدات، سوى معبر رفح البري الذي يربط بين مصر وقطاع غزة. وخلال كل تلك الفترة، وقبلها بكثير، ظلت مصر تفتح المعبر من جانبها بلا انقطاع مطلقاً، لإتاحة الفرصة لدخول المساعدات، وعبور الأفراد من الجانبين الفلسطيني والمصري إلى الجانب الآخر.
وبالرغم من هذا، فقد بدا جلياً وغريباً في نفس الوقت، أن مصر ظلت تتعرض منذ بدء الحرب لحملات كاذبة من طرفين من المفترض أنهما لا يلتقيان، حيث يزعمان أن مصر هي التي تغلق المعبر من جانبها وتحول دون دخول المساعدات إلى غزة. فقد زعم هذا مسؤولون إسرائيليون في عدة مناسبات، ومنها مرافعة فريق الدفاع الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية. والمفارقة هي أنه في نفس الوقت، تصاعدت أصوات لبعض المنتمين لجماعة الإخوان والملتحقة بها وبعض الموصوفين بمعارضتهم للنظام السياسي المصري، بنفس الادعاءات التي اجتمعوا عليها مع المسؤولين الإسرائيليين المتطرفين.
والحقيقة أن تهافت هذه الادعاءات التي تأتي من طرفين من المفترض أنهما لا يجتمعان، تكذبها حقائق لا حصر لها. فمن ناحية لدينا كم هائل من تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه، بعدم السماح بدخول المساعدات لقطاع غزة وخاصة الوقود، لأن هذا جزء من حربهم الضروس على القطاع. ومن ناحية ثانية وأكثر جلاءً، فإن سيادة مصر تمتد فقط على الجانب المصري من معبر رفح، بينما يخضع الجانب الآخر منه في غزة لسلطة الاحتلال الإسرائيلي الفعلية، وهو ما يتجلى واقعياً في آلية دخول المساعدات من الجانب المصري، حيث تذهب أولاً إلى المعابر التي تربط القطاع بالأراضي الإسرائيلية، حيث يتم تفتيشها من جانب الجيش الإسرائيلي الذي يسيطر عليها، قبل السماح لها بدخول أراضي القطاع.
كذلك، فإن مصر قد أعلنت عشرات المرات في تصريحات رسمية بدءاً من رئيس الجمهورية وكل الجهات المعنية، بأن معبر رفح من الجانب المصري مفتوح بلا انقطاع، مطالبين الجانب الإسرائيلي بعدم منع تدفق المساعدات الإنسانية للقطاع والتوقف عن تعمد تعطيل أو تأخير دخولها بحجة تفتيشها. وقد تأكد هذا الأمر بزيارة العديد من كبار مسؤولي العالم وفي مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة معبر رفح من الجانب المصري، ولم يتمكن واحد منهم من عبوره لقطاع غزة، نظراً لمنع الجيش الإسرائيلي لهم، أو تخوفهم على حياتهم بسبب القصف الإسرائيلي المستمر على القطاع.
أيضاً، فإن المفاوضات التي جرت حول الهدن الإنسانية التي استمرت لأسبوع في قطاع غزة، قد شهدت تعنتاً شديداً من الجانب الإسرائيلي في تحديد حجم المساعدات التي ستسمح قوات الاحتلال بدخولها للقطاع، باعتبارها المسيطرة عليه عسكرياً، وهو ما أسفر في النهاية عن دخول الكميات التي أعلن عنها في حينها. وقد تأكدت سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي على دخول المساعدات للقطاع وتعطيله المتعمد لها، بما طالبها به الرئيس الأميركي جو بايدن بفتح معبر كرم أبو سالم لتسهيل دخولها، وهو ما تحقق بالفعل منذ بضعة أسابيع.
ولعل المفارقة الأهم والأكبر هي أنه لم يصدر من الأشقاء الفلسطينيين في غزة ولا أي من الفصائل فيها أي اتهام لمصر بإغلاق المعبر، بل العكس تماماً الإشادة دوماً بالجهود المصرية الإنسانية والسياسية لإنقاذ القطاع وأهله، إنهم «عنوان الحقيقة».