تحظى «صناعة القرار» باهتمام خاص لدى مراكز الأبحاث الاستراتيجية، لما لها من أهمية استثنائية في سيناريوهات «إعداد القيادات» في جميع المجالات، وعلى مختلف المستويات.
إلا أن صناعته في عالم السياسة هي الأكثر أهمية وخطورة، لما يترتب على ذلك من تداعيات ومسؤوليات، تعتمد بدرجة كبيرة على طبيعته وعلى طبيعة المناسبة التي حتمت اتخاذه، وعلى المديات المحلية والإقليمية، وربما الدولية، التي قد تتأثر بتداعياته.
صناع القرارات السياسية هم رؤساء الدول، الانتخابات الرئاسية في أي دولة تحظى باهتمام خاص من الدول المجاورة لها، حسب درجة القرب أو البعد منها، وحسب ثقلها الاقتصادي والعسكري. إلا أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية تشذ عن ذلك، فهي تشغل اهتمامات دول العالم أجمع.
فالولايات المتحدة بموقعها الدولي المتميز، وبحكم ما تتمتع به من قدرات اقتصادية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية، تعتبر بمثابة «دولة جوار» لجميع دول العالم، طالما ترى أن أمنها القومي يمتد إلى كل بقعة على سطح الكرة الأرضية، وفي مياهها وفضائها.
فأبرز القرارات على المستوى العالمي، هو ما يصدر عن الرئاسة الأمريكية، وهي قرارات تتأتى عبر توافق معقد بين مصالح مؤسسات صناعية وزراعية وتجارية ومصرفية وإعلامية وعسكرية محسومة في النهاية لصالح الأمن القومي للدولة، والذي تضمنه أجهزة الاستخبارات البالغ عددها سبعة عشر جهازاً، في طليعتها وكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، الجهازان الأكثر فاعلية في صناعته، على الرغم من أن القرار يصدر إعلامياً على لسان الرئيس، ويحمل على الورق توقيعه.
الرئيس الأمريكي، بحكم الدستور، هو رئيس الدولة، ورئيس الحكومة في الوقت نفسه، وهو يتمتع بصلاحيات واسعة في اتخاذ القرارات، أو تأجيل اتخاذها، في أطر الثوابت الآنفة الذكر، وله مساحة واسعة للمناورة.
رغم القيود التي يفرضها الكونغرس، إلا أنه أكثر حرية في التصرف واتخاذ القرارات، أو تأجيل اتخاذها في دورة رئاسته الثانية، ليس بسبب قيود دستورية، بل لحسابات شخصية وحزبية، إذ يتحرر في الدورة الثانية من قلق الانتخابات، واحتمال تضاؤل فرص فوزه لعدم شعبية بعض القرارات التي يتخذها أو يتركها معلقة.
يشهد المسرح السياسي الدولي قضايا ساخنة، تتباين في أهميتها، وفي درجة إشغالها لاهتمام الأسرة الدولية، إلا أنها معلقة لحين الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، من ضمنها قضية البرنامجين النووي والصاروخي لكل من كوريا الشمالية وإيران، والعلاقات المتراجعة جداً مع تركيا.
والملف العراقي الأكثر أهمية بين ملفات عربية أخرى، سورية ولبنانية ويمنية، وملفات أخرى تتعلق بالعلاقات التي تزداد توتراً مع الصين وروسيا، وتزداد إشكالية مع الحلفاء الأوربيين.
والموقف من التوترات بين الهند والباكستان، وغير ذلك مما هو أقل أهمية، رغم حضوره على طاولة المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
الرئيس الأمريكي بايدن، وهو في مواجهة تحدٍ على رئاسته في غضون بضعة شهور، غير راغب في الذهاب إلى الحسم في العديد من هذه القضايا التي قد تتطلب انشغالاً عسكرياً غير محدود السعة جغرافياً وزمنياً، بل مفضلاً التأجيل، فاختيار الوقت المناسب لاتخاذ القرار، له أهمية كبيرة على تبعات اتخاذه.
من الصعب وصف هذا التأجيل بالافتقار إلى أحد أهم صفات القائد ورجل الدولة، وهو الحزم ومضاء العزيمة، وعدم التردد في التوقيع على أخطر القرارات، بيد غير مرتعشة.
فقد يعود ذلك إلى عوامل عديدة، منها عدم نضوج العوامل المساعدة على اتخاذها إقليمياً أو دولياً، بانتظار المناسبة التي تسمح بذلك، أو قد يكون هناك مجال لبدائل لا تخل بالموقف الذي يقلل من هيبة دولته وهيبة إدارته.
التأجيل في اتخاذ قرار بشأن قضايا عالمية، قد لا يكون بخيار الرئيس وحده، بل لكونها مثار جدل في صفوف حزبه، أو بسبب الفشل في تحشيد الحلفاء خلف قراره، أو بسبب التخوف من تداعيات قد تضر بخياراته.
من جانب آخر، تأجيل الرئيس اتخاذ قرارات حاسمة، لا يضعف قدراته على إبقاء المقابل في حالة قلق وترقب، وهو ما يخدم أغراضه، ويربك حسابات هذا المقابل.
اللافت في المشهد السياسي العالمي، أن القضايا الكبيرة في أجندة دول غربية عديدة، تبقى في أغلب الأحيان معلقة لحين إدلاء الولايات المتحدة بموقفها بشكل واضح، فهذه الدول تعفي نفسها من المواقف الحاسمة، طالما هناك ضبابية في الموقف الأمريكي، هذا على الرغم من أنه من الناحية النظرية، تعتبر الأمم المتحدة هي المنصة الشرعية لمناقشة جميع القضايا التي تشغل الأسرة الدولية، والتي تتجاوز الحدود الوطنية، والقضايا التي لا يمكن لبلد حلها بمفرده.